بين كل الفضائل المسيحيّة، وُصفَت المحبّة في العهد الجديد على أنّها الفضيلة الأولى والأهمّ للحياة المسيحيّة، في حين أنّ الصّدق هو الفضيلة الأبرز الّتي ذُكرت في لائحة أسلحة المؤمن الّتي تحدّث عنها الرّسول بولس لمقاومة مكائد إبليس. يشير بولس في هذه اللائحة إلى مجموعة كاملة من الأسلحة، وليس إلى مجرّد سترة معدنيّة واقية. وتبرز الحاجة إلى هذه الأسلحة كون الأرواح الشرّيرة تملك قوّةً مرعبة وتستخدم استراتيجيّات وتكتيكات ماكرة ضدّنا، بما في ذلك إغراءات الخطيّة ومحاولات سَلْب السّلام ويقين الخلاص. بالإضافة إلى ذلك تسعى أجناد الظّلمة باستمرار لصرفنا عن مهمّتنا تجاه النّفوس، مقوّضين إن استطاعوا كلّ شهادة للمسيح. قد يفعلون ذلك عبر التّلويح بالإغراءات العالميّة، أو عبر تغيير أولويّاتنا، بحيث لا يعود عمل الله هدفنا الرّئيسي. إنّهم يريدون أن يرموا بالأفراد والكنائس في شِبَاك البرودة الرّوحية والخمول.
السلاح الأول
يدعونا الرّسول بولس إلى حمل سلاح الله الكامل لكي نقدر أن نُقاوم في اليوم الشرّير. يجب أن نتصدّى بحزم لكلّ المحاولات الرّامية إلى إيقاعنا في شِباك الخطيّة أو إلى إبعادنا عن إرساليّة المسيح العظمى. يجب أن نقاوم بعزم كبير هجومات البدع والضلالات والعبادة غير الوقورة. ولكن من أين لنا بِمِثل هذه القوّة للصمود وللمقاومة؟ يقترح بولس السّلاح الأوّل: “فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحقّ”.
الجندي الروماني
لكي ندرك المعنى الكامل بعبارة “مِنطقة الحقّ” يجب أن نعرف أن الجندي الرّوماني كان يلبس حزامًا يعتبره أساس كلّ لباسه، ليس فقط لكونه يوفّر الحماية إنّما أيضًا لِكَوْن الجزء الأمامي من السّترة الواقية الّذي يحمي الصّدر والجزء الخلفي الّذي يحمي الظهر ويُطبِقان على بعضهما، ويرتكزان على الحزام من الأمام والخلف. وكان يُعلّق سيفه وخنجره ورماحه بالحزام بمشابِك. ويُعتقد أيضًا أنّه حتى الدّرع كان يُعلّق بالسّترة الواقية الخلفيّة والحزام مع أدوات أخرى. لذلك فقد كان الحزام هو الأساس المتين لكلّ القطع الأخرى، وبالإضافة إلى ذلك إنّه “الدّعم الذي يحصّن” الجندي ليستعدّ للتحرّك.
الصدق هو الأساس
واضعًا كلّ هذا في باله، يعدّد الرّسول العناصر المهمّة للحرب المسيحيّة، مبتدئًا بعبارة – “مُمنطقين أحقاءكم بالحقّ”. وإذ نرغب بفهم ما قصد الرسول بـ”الحقّ”، نسأل: هل قصد الرّسول عقائد الإيمان الأساسيّة؟ إنّ لهذا التّفسير معنى بالتّأكيد، ولكن لا يمكن أن يكون كذلك لأنّه عاد وذكر فيما بعد الحقائق العقائديّة عندما حكى عن “سيف الروح الذي هو كلمة الله”. إذًا “الحقّ” الّذي حكى عنه أولاً هو الصّدق والإخلاص. وكأن بولس يقول، مَنطِقْ حَقَوَيْكَ بِحِزامِ الصّدق، الّذي سيجعل كلّ الفضائل المسيحيّة الأخرى المهمّة في الحرب الرّوحيّة تتماسك معًا.
الثبات على الصدق
ونسأل: كيف نُمنطق أحقاءنا بالصدق؟ هل يكون ذلك على طريقة ربط الجندي الروماني حزامه حول خصره؟ هذا ما يجب أن نتمنّاه ونُصلّي لأجله وهو تسكننا رغبة كبيرة بالصّدق يعزّزها إدراكنا لقبح النّفاق ولخطره والنفور منه. إن خوفنا من السقوط في النّفاق يحثُّنا على التماس الصّدق وعيشه. يجب أن نسأل أنفسنا دائمًا: “هل أنا حقيقيّ؟ هل أنا أَصيل؟ هل أنا حقًّا صادق في إيماني وفي حياتي وفي مسيري؟”
هناك دافع كبير آخر للتّحلّي بالصّدق، وهو التّفكير في الثمن الّذي دفعه المسيح على صليب الجلجثة لفداء نفوسنا. فكّر بما كلّفه الأمر، وبما فعله من أجلنا. إنّه لم يتكبّد كلّ عذاب جسدي ونفسي لشراء مؤمنين زائفين، وملتزمين جزئيًّا، وضعفاء روحيًّا، وغير مستعدّين، ومساومين، ومتذبذبين.
دور الضمير
قبل أن نضع حزام الصّدق يجب أن نصمّم على التّجاوب مع الضّمير كلّما حرّكه الرّوح القدس لوَخْزِنا. عندما تقودنا رغبة دَنِسة، أو نميل لمزاج معكّر أو ردّ فعل خاطئ، أو نتلفّظ بكذبة بيضاء أو كلمة حاقدة، هل نكون وقتئذٍ مستعدّين وراغبين في الإصغاء لصوت تحذير الضّمير؟ هل نتجاوب بسرعة، ونتوقّف على الفور عن تلك الخطيّة النّامية؟ إنّ الاستجابة للضّمير، والحرص على الطّاعة الفوريّة، هو جزء كبير من “ارتداء الصّدق”. في حين أن قمع الضّمير، ولو للحظة، يُعدّ خلعًا لحزام الصّدق.
التوبة المستمرَّة
يجب ألّا نتوب بشكلٍ سطحيٍّ، بمجرّد الصّلاة: “يا رب سامحني، أنا أتوب”. ليست هذه توبة صادقة، إنها توبة سطحيّة كاذبة، أَخْدَعُ بها نَفْسي. علينا أن نتذكّر ما قمنا به، أو على الأقل نتذكّر الشّكل الكبير للخطايا الّتي تحتاج إلى غفران. يجب أن نسمّي الخطايا باسمها، ونشعر بعبئها وعارها، ونتعهّد باتّباع مسار أفضل في الحياة لتفاديها. إنّ التّوبة السّطحيّة أو العامّة هي توبة مزيّفة، لا تتناسب مع الصّدق.
بركات الصدق
إنّ الصّدق جميل، إنّه يقوّي ويجمّل كل أنواع الشّخصيّات وأنماطها. من أبسط مؤمن إلى أعظم مفكّر، الصّدق يجعل الكلّ أكثر جاذبية. فهو يُغْنِي المؤمن الأكبر سنًّا ويرتقي به، وكذلك المؤمن الأصغر. إن أعظم بركات الصّدق هو أن المسيح يسكن فينا بروحه القدّوس، وينير قلوبنا ويباركنا، بينما النّفاق على أنواعه يبعده عنّا.
إنّ الصّدق هو أساس تصميمنا على إرضاء الله والانتصار على الشّيطان. إنّه يجعلنا مخلصين وأمناء في كلّ ما نقوم به، ويمكّننا من الصمود. إنّ الصّدق بين أعضاء الكنيسة يحميهم من سلطان الظلمة، ويجعلهم فعّالين في الدّفاع عن الحق. إنّ الصّدق يشجّعنا على إتمام مأمورية الرّب العظمى. الصدق يُجمّلنا بجمال المسيح.