“أَخْدِمُ الرَّبَّ بِكُلِّ تَوَاضُعٍ” (أعمال الرسل 20: 19) كانت كلمات الرّسول بولس الوَداعيّة لشيوخ كنيسة أفسس بعد لقائِهِ بهم في ميليتس. لقد عرفوه عن كَثَب، كونه مؤسّس كنيستهم وراعيها لثلاثِ سنوات. كم أحبّوه لِتفانِيهِ في عمل المسيح وفي الرّعاية الرّوحية. وصف الرّسول بولس نفسه قائلاً: “أَخدِمُ الرَّبَّ”، في اليونانيّة “أنا عبدٌ للرّبّ”، تمامًا كما يفعل العبد مع سيّده الّذي يملكه. إنّ استعباد الرّسول بولس نفسه للرّبّ وتواضعه يشكّلان مثالاً وتحدّيًا لنا جميعًا.
كان الرّسول بولس قد أصبح عجوزًا من شدّة ما قاساه في تلك الأيّام، لكنّه لم ينسحب أو يتوقّف لإضاعة الوقت في الحنين المفرط. لم يتقاعد أو يتقاعس، لكنّه تمّم خدمته التي استلمها من الرّب حتى الساعة الأخيرة. ونتمنّى أن نتعلّم منه هذا التّواضع تحديدًا.
“تواضع الفكر” – يا له من تعبير! لا نرى ذلك دائمًا في المشهد الإنجيلي اليوم. نرى الناس يجدون متعةً في ما يسمّونه السّلطان والقوّة والمواهب، ويبتكرون إلى ما لا نهاية أساليب جديدة في العبادة وتنظيم الكنيسة. هناك ثقة زائدة بالنّفس واعتماد على الذّات. لكن شعار بولس هو “بِكُلِّ تَوَاضُع”.
يمكننا أن نفهم أنّه كان لبولس بُنْيَة متواضعة كَوْنَه عجوزًا، كان بإمكانه أن يحسد الخدّام الشّباب على نشاطهم وقوّتهم. كان أيضًا رجلاً مريضًا، يخبِرُنا هو بذلك. حتى أنه يمكننا أن نتخيّل جيّدًا أنّه كان متواضعًا إذا ما تعلّق الأمر بالمحدوديّة الجسديّة. لكن كان لبولس “كلّ التّواضع”، بما في ذلك تواضع الذّهن: التّواضع الفكري.
من خلال المنطق المُستخدم في رسائله، نفهم أنَّ الرَّسول بولس كان عبقريًّا. صحيح أنّ رسائله كانت بوحيٍ من الله، وتعكس العبقريّة الإلهيّة بدلاً من منطق الكاتب البشري، ولكن كلمة الرب الموحى بها تطوّع نفسها بشكل رائع لأسلوب الكاتب الطبيعي، لذلك لدينا انطباع بأن الرّسول بولس نفسه هو مفكّر عظيم. ولكنّه امتلك تواضعًا فكريًّا هائلاً. إذا قرأنا رسالة رومية، وركّزنا على المراجع الهامشيّة، نرى أنّ المنطق غنيٌّ بنصوص داعمة مقتبسة من العهد القديم، سواء الاقتباسات المباشرة أو غير المباشرة. نرى أن الرسول بولس اعتاد على الاستعانة بكلمة الله. لم تجرفه قدرته العقلية بعيدًا إنما أثبت باستمرار صدق تعليمه بالعودة أولاً إلى الكتاب المقدس.
نلاحظ أيضًا تواضع الرّسول بولس الكبير في اعتماده الكلّي على روح الله القدوس في السلطان الروحي، خلافًا للبعض اليوم الّذين يتصرّفون كما لو أنّ القوّة هي موهبة فطريّة وطبيعيّة فيهم، ومتاحة لهم ليعملوا بها ساعة يشاؤون. على النقيض من ذلك، يُقرّ الرسول بولس بأنه مزدرى ومُنتقَد بسبب فشله في إظهار حضور قوّي. لم يستعرض أبدًا، إنّما بَحَثَ عن الله ليقوّيه روحيًّا. من الواضح أنَّه لم يكن أحد هؤلاء الوعّاظ العنيفين أو الصّاخبين، الذين تبدو عظاتهم مجرّد لغو مطوّل، والذين يتحرّكون على المنبر صعودًا ونزولاً كما لو أنّ التأثير المسرحي سيضمن البركة. على العكس من ذلك، إنّ الرسول بولس تعرّض للسّخرية بسبب لطفه النّسبي في وعظه.
لم يكن بولس أحد هؤلاء الناس الّذين يطالبون ببركات الله في الصلاة، مدّعيًا هذا وذاك. على الرغم من أنّ لدينا وعود عظيمة تشجّعنا على الصلاة، إنّما يجب أن ندخل إلى محضر الله كما فعل الرّسول بولس بكلّ خشوع وتواضع، كمتضرّعين مساكين. كلّ صلوات الرّسول المدوّنة متواضعة جدًّا. إنّها صلوات شخص يسأل ويتوسّل، لا يطالب أبدًا ولا يدّعي.
نرى تواضع الرّسول بشكل خاصٍّ في الطّلبات المتواضعة التي طلبها من داعمِيه، المتوسّطي الحال جدًّا. لا أحد كبولس كان مستعدًّا للعمل رغم قلة الموارد. لم يتوقّف أبدًا ليحتجّ ويقول مثلا: “انظروا، أنا كرسول لي الحق في هذا أو ذاك”. حتى عندما تخلّى عنه الناس وفشلوا في مساعدته، استمرّ وحده في خدمة الرب، وسلّم أمره له. هذا هو التّواضع في القداسة.
قد نلاحظ أنّه حتى في التجمّعات الصّغيرة كان الرّسول مستعدًّا للخدمة. لم يقل أبدًا: “يجب أن تعرفوا أنّني أسّستُ العديد من الكنائس الضّخمة جدًّا، ولديَّ مسؤوليّاتٌ عظيمة، وسوف أتكلم فقط إذا أمْكَنَكُم جَمْعُ ألف شخص”. على العكس من ذلك، كان في أفسس يذهب من منزل إلى منزل، يدفعه اهتمامه بالنفوس.
لنتأمّل أيضًا في تواضع بولس في قبول التّجارب، كما هو مسجَّل في أعمال 20 :22-24 “وَالآنَ هَا أَنَا أَذْهَبُ إِلَى أُورُشَلِيمَ مُقَيَّدًا بِالرُّوحِ لاَ أَعْلَمُ مَاذَا يُصَادِفُنِي هُنَاكَ. غَيْرَ أَنَّ الرُّوحَ الْقُدُسَ يَشْهَدُ فِي كُلِّ مَدِينَةٍ قَائِلاً: إِنَّ وُثُقاً وَشَدَائِدَ تَنْتَظِرُنِي. وَلَكِنَّنِي لَسْتُ أَحْتَسِبُ لِشَيْءٍ وَلاَ نَفْسِي ثَمِينَةٌ عِنْدِي حَتَّى أُتَمِّمَ بِفَرَحٍ سَعْيِي وَالْخِدْمَةَ الَّتِي أَخَذْتُهَا مِنَ الرَّبِّ يَسُوعَ”.
نفكّر بالعزيز بولس، الرسول المتألم، صاحب القلب المثقل بالنّفوس الضّالة، وحال المؤمنين وأهمّ الكلّ مجد سيّده. نفكّر في العزيز بولس، الّذي لم يكن يومًا بعيدًا، أو متعاليًا ومقتدرًا، ولم يعتبر نفسه مهمًّا جدًّا ويعتذر عن خدمة الأفراد أو عن القيام بالمهامّ المتواضعة. نفكّر في العزيز بولس، الّذي لم يكن يومًا مريضًا جدًّا أو عجوزًا جدًّا ليتمّم واجباته كاملة كعبد للمسيح.
لو كان الرّسول بولس حيًّا اليوم، نتخيّله غير راضٍ عن مقدّمات المدح في الاجتماعات، أو بالسّير الذّاتية التي تؤلّه الناس. إذا شاهدناه في محادثة غير رسميّة مع الآخرين لن نجده حريصًا على استجوابهم عن نفسه، بل سوف نراه أكثر اهتمامًا بهم، وفي ما يختصّ بالرّبّ. ربما في وقت لاحق سيقدّر من يُجرُون معه المقابلات قلّة المعلومات التي يقدّمها عن نفسه، بعيدًا عن شهادته عن الخلاص وعن صلاح المسيح.
دعونا نسعى بكلّ ما في وسعنا لاقتلاع كل أصل للكبرياء في شخصيّاتنا، ونكره كل مظهر من مظاهره ونرفض كل ظهور له وكلّ فكر يمجّد النفس. لو تحقّق ذلك، وخدَمْنا الرّب بكلّ تواضع، سنكون مباركين. ليت هذا يكون رغبتنا القويّة، لأنه المدخل إلى عمق أكبر وإلى استخدام في المسيح.