التوق للآيات والعجائب

يمكن تفسير الظواهر الكاريزماتيَّة التي نشهدها اليوم استنادًا إلى النزعة الشكوكيَّة ونكران الحق، الأمرَيْن المُنتشرَين على نطاق واسع في العالم اليوم من حولنا. إذ يتم نكران وجود الله وصفاته وأعماله بسبب التفكير المتَّسِم بالتوجُّه العقلانيّ، التطوريّ، الماديّ والإلحادي. وفي مثل هذا العالم؛ تقع الكنائس تحت وطأة ضغط هائل أن تُبيِّن للمجتمع غير المؤمن أن الله حيّ، وأنَّ لديه القوة والحكمة، وأنَّه فعل حقًّا كل المعجزات والآيات التي سُجِّلَت في كلمتِه.      

هذا هو الإطار المرجعي والأجواء التي أفضت إلى الخطر البائس الذي نواجهه اليوم، ألَا وهو الرغبة في إجبار الله على إعطائنا (أو أن يستحضر لنا) مظاهر القوة التي ستقنعنا والآخرين بأن الله هو في الواقع إله الأسفار المقدسة. لدينا أمثلة في الكتاب المقدس على الأوقات التي شعر فيها شعب الله القديم برغبة مماثلة في تأييدٍ علنيّ لإلههم. كانت هذه الرغبة مشروعة وذات قيمة، ولكنَّ الله لم يُلبِّها أبدًا. رُفِعَت صلوات -صرخات يائسة- من أجل معجزات مرئيَّة، ولكنها لم تُعطَ أبدًا لإشباع رغبة شعب الله.

يعلم الرب ما يفعله، ومتى سيفعله، وكيف سيفعله. إن تأييد الله المرئيّ لا يتم حسب رغباتنا أو اقتراحاتنا أو مخطَّطاتنا البشرية، بل هو خاضع تمامًا لإرادة الله السيادية.

كل شيعة رئيسية ومذهب كاذب من المذاهب المسيحية يعرض على أتباعه معجزاتٍ من أجل تأييد شهادته وسط عالمٍ غير مؤمن. النمو السريع للشِّيَع المنحرفة يمكن عَزْوه إلى هذا: الضمانة المُشتَمَلَة بأن الناس سيشعرون ويختبرون ويرون تأييدات الله المرئية المذهلة العلنية. لذلك، يتم وضع شعب الله اليوم تحت ضغوط ضخمة لا يمكن مقاومتها في غالب الأمر، مما يدفعهم لأن يرغبوا في بعض التأييد المذهل. ينظر الكثيرون إلى الكتاب المقدس ويقولون: «لكن أليس الكتاب المقدس مليئًا بالآيات والمعجزات؟ لماذا يمكن للناس في تلك الأزمان أن يختبروا المعجزات ويقومون بها ولا نستطيع نحن ذلك الآن؟»       

على أية حال، الكتاب المقدس ليس «مليئًا» بالآيات والمعجزات بمعنى كونها مستمرة. يجب ألا ننسى أبدًا أن التحليل الدقيق للكتاب المقدس يبين أن المعجزات لم تحدث كل أسبوعين لكل شخص وآخر. بل كانت، في الواقع، من بين أندر الأحداث في تاريخ العالم. سيكتشف أي دارس للكتاب المقدس مِمَّن يستغرقون بعض الوقت في تتبع تاريخ الكتاب المقدس أنه من وقت خَلْق العالم إلى مجيء الطوفان بعد ما يقرب من 1700 عام، كانت هناك معجزة واحدة فقط، تمثَّلَت في نقل أخنوخ دون أن يموت ليكون في محضر الرب. بطبيعة الحال، في المرحلة الأخيرة من هذه الفترة كان هناك مشروع بناء الفلك، ولكن من نقطة رصد خارجية، فإنه حتى هذا لم يكن من بين الآيات المُعجزيَّة.

ومن الطوفان إلى زمن الآباء البطاركة، كان هناك أيضا آية مُعجزيَّة واحدة فقط؛ دينونة برج بابل. ومن زمن الآباء البطاركة إلى موسى، كانت الآيات المُعجزيَّة نادرة جدًّا. ثم خلال أربعمئة سنة من العبودية في مصر، لم تكن هناك كلمة واحدة من السماء، ولا آية مُعجزيَّة واحدة. وفجأة، جاء الانفجار العظيم للآيات في زمن موسى ويشوع. وطوال فترة أزمة الخروج ودخول أرض الموعد كان هناك الكثير من الآيات، ثم تأزَّم الوضع أكثر في زمن القضاة. في وقت لاحق، أصبحت الآيات نادرة جدًّا مرة أخرى، ولم يكن هناك أيًّا منها في وقت سليمان.          

في فترة المملكة المنقسمة من سليمان على طول الطريق وصولاً إلى نحميا، كانت الآيات نادرة جدًا لدرجة أنها كانت غير موجودة على الصعيد العمليّ. كانت هناك استثناءات بالطبع. اختَبَر إيليا وإليشع بعض الآيات، وذُكِر يونان في سياقِ آيةٍ مسيَّانيَّة عظيمة. ولكن بالمقارنة مع خمسة قرون، فإنَّ هذه الآيات تعدُّ قليلة جدًّا. بعض من الرجال الأكثر اتِّسامًا بالتقوى في تلك الحقبة من التاريخ، مثل عزرا ونحميا وزربَّابل، لم يشهدوا أبدًا ولو آية واحدة. عندما وصلت فترة العهد القديم إلى نهايتها، تبعتها فترة 400 سنة (حتى وقت يوحنا المعمدان) والتي عُرِفَت تقليديًّا باسم فترة صمت الله. حدثت العديد من الأشياء المثيرة للاهتمام، ولكن لم يكن هناك أية آيات، ولا صوت من السماء.    

والأمر الأكثر مدعاة للدهشة هو حقيقة أنه عندما نأتي إلى يوحنا المعمدان، ورغم أنه كان أعظم نبي عاش على الإطلاق، يصر ُّالكتاب على أن يوحنا لم يقم أبدًا ولو بآية واحدة في حياته كلها. إذا كان هذا تأمُّلاً مذهلاً، فماذا عن الرب يسوع نفسه؟ لقد كان أعظم صانع للمعجزات، وابن الله الحي، لكنه لم يؤدِّ معجزة واحدة في الثلاثين سنة الأولى من حياته.

صُدِم بعض المسيحيين الأوائل وساءَهم التصريح الصادر في يوحنا 2: 11 الذي يخبرنا أن تحويل الماء إلى خمر كان أول معجزة قام بها يسوع على الإطلاق، لدرجة أنهم قبلوا بحماقة الأناجيل المشكوك في صلاحيتها المليئة بتفاصيل خياليَّة عن المعجزات التي صنعها يسوع عندما كان طفلاً وصبيًّا. لقد شعروا بالحاجة لملء الفراغ المُفتَرَض وتخفيف الإحراج الشديد من كون ابن الله لم يقُم بآياتٍ لمدة ثلاثين سنة.    

لماذا لم يعمل الرب معجزة في كل تلك السنوات؟ لعل السبب في ذلك هو أن الآيات ترتفع قيمتها بالتناسب طرديًّا مع ندرتها. إذ أنَّها إن حدثت باستمرار واستجابةً لطلب أو حاجة أي شخص، فإنها سرعان ما ستصبح شائعة وتفقد قيمتها ذات الطابع الديناميّ الإعلانيّ. لقد وضع الله حدودًا لآياته بحكمته، وهكذا لم يستطع الناس التنبؤ متى وكيف أو أين سيفعل مثل هذه الأشياء.         

كما أنَّ إلهنا بحكمة بالغة، ولأسباب واضحة، أزال كل الأجواء التنافسيَّة المتعلِّقة بصنع المعجزات من حول ابنه الحبيب. حتى إن يوحنا المعمدان الذي سبقَه وبشَّر به، لم يصنع آيات من أجل أن يركز الاهتمام الخاص على ادعاءات الرب يسوع أمام أمة إسرائيل. لقد قال العهد القديم مرارًا وتكرارًا أنه عندما يأتي المسيّا، سيعرفون من هو بسبب الآيات التي سيصنعها.