خطّة الله لكنيسته

لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْضِ”(أفسس 6 :3)

كثيرًا ما تعاني الوصيّة الخامسة من أخذها فقط بمعناها الحرفي. فإنّنا نفسّر قَصْدَ الله الواضح بشكل ضيّق ومحدود جدًّا، هاربين بذلك من المسؤولية الكاملة التي ألقاها الله على عاتقنا. سوف نركّز في هذا الفصل على تطبيق هذه الوصيّة في حياة كنيسة المسيح، بدلاً من المعنى السّطحي للكلمات المفهومة والواضحة جدًّا.

لعلّنا لا نعتبر هذه الوصیّة من أهمّ الوصايا، لأنّنا نرى وصايا القتل والزنا أخطر بكثير من الفشل في إكرام الأب والأم. وإذ نضع هذا في بالنا، نقلّل من قيمة الوصيّة الخامسة. لذا دعت الضرورة أن يقدّم الرّسول بولس ملاحظة مذهلة تهزّ الكيان –

“أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ، لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْض.”(أفسس 6 :2-3).

للوهلة الأولى يبدو الرسول بولس مخطئًا، لأن الوصيّة الثّانية هي أول وصيّة بوعد. ولكنّ الرّسول بولس كان يقصد بلا شكّ بالوصيّة الأولى أنّها رئيسيّة وأساسيّة لضمان حياة طويلة وخير. بعبارة أخرى، يمكننا إعادة صياغة الوصيّة كما نقلها الرّسول بولس ليصبح نصّها كالتّالي: “أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِي هِيَ أَهَمُّ وَصِيَّةٍ- نظرًا إلى وعدها– لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْض. “

إذا مَرِضَ أحدهم، يصبح الأهمّ هو نقله إلى طبيب، وإذا أراد شخصٌ ما أن يتعلّم، فأهمّ مكانٍ يقصده هو المدرسة أو الكلّيّة. وإذا كنّا نسعى لنعيش حياةً مديدةً أو لنستقرّ عائليًّا، أو مجتمعيًّا، تصبح الوصيّة الخامسة هي العنصر الأهمّ. إذا فاجأنا هذا التصريح، فذلك لأننا قلّلنا جدًّا من معنى وقيمة هذا الجزء من شريعة الله المقدّسة والرّائعة.

الاستقرار أو طول العمر؟

دعونا نفكر للحظة بالوعد المرتبط بهذه الوصيّة في سفر الخروج – “أكْرِمْ أبَاكَ وَأمَّكَ لِتَطُولَ أيَّامُكَ عَلَى الأرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ”. في تثنية 5: 16 يتمّ التوسّع في هذا الوعد ليشمل الكلمات التي اقتبسها بولس في أفسس 6 – ” لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ”. هل الأمر حقًّا كذلك؟ أي هل إذا أكرمنا والدينا ستسير أمورنا على خير ما يرام وسنعيش حياة مديدة؟ ليس بالضرورة، لأن المقصود في ما نُطق به في سفر الخروج وسفر التّثنية ليس طول عمر الأفراد، بل طول السّنين التي سيمتلك فيها إسرائيل أرض الموعد، وأيضًا خيرهم كأمّة. إنّ كلمات الوصيّة هي كالتّالي- “لِتَطُولَ أيَّامُكَ عَلَى الأرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إلَهُكَ”. فالوعد يقول إنّ بني إسرائيل سيحتلّون تلك الأرض الرّائعة لفترة طويلة من الزّمن ويعيشون مستقرّين فيها بشرط أن يحفظوا وصيّة الله ويكرموا جيل آبائهم ويقدّروهم، ويحترموا تعليمهم وقيادتهم وخبرتهم. صحيح أنّ الوصيّة موجّهة للأفراد، لكن المقصود بالوعد يشير بلا شك وبشكل رئيسي إلى استقرار الأسرة أو الوحدة الاجتماعية. إنّ طاعة هذه الوصيّة تعني أنّ الله سوف يبارك، وسيعيشون في مجتمع منظّم جدًّا وآمن، مجتمع لا تسوده الفوضى، وعدم الانضباط والتّشرذم.

إنّ الطّريقة الَّتي بها طبّق الرّسول بولس الوصيّة على الأولاد تبيّن أنّ هناك أيضًا جانبًا شخصيًّا للوعد، وينبغي بالتّأكيد ألا نتغاضى عنه. إنّ الله سيكرم ويبارك بشكل خاص – بحسب مشيئته لكل فرد –  الّذين يوفون أهلهم-قدر الإمكان- حقّهم من الاحترام والرّعاية. إذا كنّا نرغب بالبركة الرّوحية والاستخدام كلّ أيّام حياتنا، وأهلنا ليسوا معادين لنا أو متطلّبين أكثر من اللّزوم واستبداديّين، من الأفضل أن نتأكّد من أنّنا نطيع الرّب ونرضيه في هذه النقطة. يرى الله خطيّةً كبرى في النّسل العنيد، غير الشاكر، والقاسي، الّذي يتجاهل كبار السّن، ولا يوفِيهم حقّهم في الاحترام والاهتمام والدّعم.

ومع ذلك، فإنّ الوعد بالحياة المديدة يعني أساسًا استقرار وبقاء أمّة إسرائيل في أرضها الجديدة، وبما أنّ إسرائيل ترمز إلى الكنيسة وتجسّدها، فإن الوعد يعني أيضًا بركة حياة الكنيسة واستقرارها. فالله يقول في واقع الحال للإسرائيليين، وللمؤمنين بعدهم في كنائس العهد الجديد: “إذا ساد داخل الأمّة [الكنيسة] احترام كبير لجيل الآباء، وللقادة، وللتّقاليد الصّحيحة، وللتّعليم، والتّوجيه والإرشاد، ستكون الأمّة [الكنيسة] مستقرّة وناجحة، وسوف تحتلّ الأرض فترة طويلة ويدوم ملكها لتخدمني”. التّطبيق للكنائس اليوم واضح. إذا كنّا نفهم مبادئ الله في الحكم والنّظام والتّوجيه والقيادة ونحترمها، ستكون كنائسنا في بركة واستقرار. سيحتلّون “أرض” الحقّ الّتي منحهم إيّاها الرّب، ولن يخسروا معاركهم، أو يتوقّفوا عن إعلان الإنجيل الأبدي.

“الأهل” بمعناها الأشمل

ولكن كيف يُقصد من “أَبَاكَ وَأُمَّكَ” نظام الكنيسة؟ إذا تأمّلنا في كيفيّة استخدام العهد القديم لكلمتَيْ الأب والأم، يسهل علينا إثبات أنّ المقصود من الوصيّة الخامسة هو التّطبيق الأوسع الّذي يمتدّ ليشمل جميع أنواع الآباء، بمَنْ فيهم المرشدين الروحيّين. في سفر التكوين 45، يخبر يوسف إخوته بأنّ الله جعله “أبًا لفرعون”. واضح أنّه لم يكن والد الفرعون بالمعنى الحرفي، ولكنّ هذا المقطع في بداية الكتاب المقدس يساعدنا على فهم المعنى الواسع جدًّا الذي كانت تُستخدم فيه كلمة “أب”. ففي هذه الحالة كانت تعني أنّ يوسف أصبح مستشار فرعون ورئيس وزرائه.

في سفر القضاة نجد كلمة أُم مستخدمة بطريقة مماثلة، إذ قيل لنا إنّ دبورة أصبحت ” أُمًّا فِي إِسْرَائِيلَ”. كونها قاضية ونبيّة، ومرشدة وقائدة، كانت تسمّى أمًّا. نذكر كيف صَرَخَ إليشع إلى إيليّا قائلاً: “يَا أَبِي، يَا أَبِي”. فقد كانت عادةً وعُرفًا بالنسبة له أن يستخدم مصطلحًا كهذا لينادي على معلّمه، بالرّغم من أنّ إيليا لم يكن والده الحرفي، بل قائده ومرشده، وأيضًا مدير مدرسة الأنبياء. وقد فعل الملك يوآش نفس الشيء بالضّبط مع أليشع، ممّا يثبت أنّها كانت ممارسة شائعة. فقد صَرَخَ إلى أليشع قائلاً”: “يَا أَبِي، يَا أَبِي”، لأنّه كان نبيًّا، وقسًّا ومرشدًا.

في زمن العهد القديم كانت المصطلحات الأبويّة تُستخدم بمرونة في وظائف مختلفة، روحيّة ومدنيّة، وفي العهد الجديد يستخدم بولس كلمة الأب بنفس الطريقة، قائلاً لأهل كورنثوس، “لأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَكُمْ رَبَوَاتٌ مِنَ الْمُرْشِدِينَ فِي الْمَسِيحِ لَكِنْ لَيْسَ آبَاءٌ كَثِيرُونَ. لأَنِّي أَنَا وَلَدْتُكُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ بِالإِنْجِيل”. يمثّل توماس واتسون التّقليد الطّهوري في عرضه للوصايا العشر إذ يقسم هذه الوصيّة إلى خمسة أقسام، مميّزًا بين الآباء السّياسيّين، والآباء القدامى، والآباء الروحيّين والآباء المنزليّين (ويقصد سادة العبيد، أو أرباب العمل)، وأخيرًا الآباء الطبيعيّين. كم نبدو اليوم سطحيّين بالمقارنة معهم، إذ نقرأ هذه الوصيّة ونرى أنّ المقصود فقط هم الآباء الطبيعيّين. لذلك نعلم أنّ الوصيّة واسعة جدًّا، وبالتأكيد تشمل التّطبيق على القيادة في الكنائس.

معنى “أَكْرِمْ”

أي نوع من الاحترام مقصود بكلمة “أَكْرِمْ” المستخدمة في هذه الوصيّة؟ إنّها بالتّأكيد لا تشير إلى الطّاعة الخاضعة للنّاس لمجرّد أنّهم يَشْغَلُون مناصب عُليا، أو لِكَوْنِهم أكبر سنًّا منَّا. على سبيل المثال، كيف يجب أن يكون موقف المؤمن من الحكّام السّياسيّين؟ بحسب الكتاب المقدس نحن نخضع لهم، إلّا إذا كان ذلك يعني عصيان الله. ندفع الضّرائب ونصلي من أجلهم، حتّى يكون هناك سلام وحريّة من الاضطهاد. نحن نخضع لهم بغضّ النظر عن انتمائهم الحزبي، ولكنّنا غير ملزمين بالإعجاب بهم على المستوى الشخصي، أو بتأييد نظريّاتهم السّياسيّة. في الواقع، كيف لنا أن نتّفق معهم إن كان كثيرون منهم، إن لم يكن معظمهم، بعيدين عن الفكر الكتابي كما كان نيرو عندما كتب الرّسول بولس تعليماته حول موقفنا من القادة المدنيّين (في رومية 13 :1-7 و1 تيموثاوس 2: 1-4). ليس المؤمن من الثوّار الاجتماعيّين ولا من المتمرّدين. إنه وديع وخاضع، مطيع ومحترم، ولكن إذا أمر الحاكم المدني بشيء يتعارض مع قانون الله، فعلى المؤمن أن يتبع كلمة الله حتّى الموت. ومع ذلك، عليه أن يحافظ على احترامه وطاعته للسّلطة الشرعيّة، ويصلّي للقيادة لأنّه يعلم أنّ قصد الله من القيادة الوطنيّة هو الاستقرار والعدالة. لن ندخل في جدل حول هذه المسألة، إذ للثورة الاجتماعية مبرّراتها أحيانًا، وقد أيّدها بعض رجال الدّين العظماء وسط ظروف قاسية.

هناك أيضًا بعض الاستثناءات المتعلّقة بإكرام الآباء الطبيعيّين، لأننا نتذكّر أن المخلّص قال للرّجل الّذي أراد أن يؤخّر دعوة أن يكون تلميذًا للرّبّ كي يدفن والده: ” دَعِ الْمَوْتَى يَدْفِنُونَ مَوْتَاهُمْ”، وقال للجموع: “إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَأْتِي إِلَيَّ وَلاَ يُبْغِضُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ…فَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَكُونَ لِي تِلْمِيذًا”.(لوقا 9 :60؛ 14 :26).

لا يتطلّب إكرام الأهل (خاصةً من كانوا غير مؤمنين وغير عقلانيّين) الخضوع لمخططاتهم المختلفة الّتي تعيق الأولاد عن السّير في طريق الله. إذا كان الأهل (وأحيانًا المؤمنون منهم) محبّين للتملّك أو متعجرفين أو مستبدين، فإنّ أولادهم البالغين غير ملزمين بتكريس كلّ وقتهم وجهدهم لإرضائهم، خوفًا من خرق وصيّة الله. إنّ أولويّة المؤمنين هي الخدمة الغيورة في الكنيسة المحليّة. وعليهم أن يكرموا الرّب أولاً وقبل كلّ شيء، وأن يتحمّلوا مسؤوليتهم في إكرام والديهم في المقام الثاني بعد واجبهم تجاه الله. لذلك، يجب ألّا يتعارض الولاء للأهل مع إخلاص المؤمن لله. نحن نقدّم الاحترام والرّعاية، ولكن ليس على حساب الرّب.

يساوم بعض الأزواج الشّباب على أنفسهم وعلى شهادتهم لأهلهم غير المؤمنين، إذ يقبلوا هداياهم القيّمة، وصدقاتهم ومساعدتهم، حاصدين بذلك نتائج غير صالحة. قد يعتقد الوالدان أنّهم انتصروا على إله أولادهم، لأنهم يعتقدون بفخر أن خيرهم وظروفهم المستقرّة هي بفضل نعمة والديهم. إنّ كلمات إبراهيم لملك سدوم مهمّة هنا فقد قال: “لا آخُذَنَّ… مِنْ كُلِّ مَا هُوَ لَكَ فَلا تَقُولُ: أنَا أغْنَيْتُ أبْرَامَ. ” (تكوين 14: 23). كذلك من الخطر أن يشعر أولادهم أنّهم ملزمون بتلبية كل مطالب هؤلاء الأهل بسبب ما تلقّوه منهم. الإكرام لا يعني – أن أصبح معتمدًا، أو مدينًا أو ملزمًا.

السلطة في الجماعة

إنّ نظام كنائسنا مؤسّس في نهاية المطاف على قانون هذه الوصيّة الخامسة، وسننظر الآن في بعض الطرق الّتي تحمي حياة كنيستنا. يجب أن نَضَعَ في اعتبارنا أنّ الّذين يقودون الكنائس – الآباء الروحيّين – مهمّون وذوات خبرة. تعني كلمة “أَكْرِمْ” أن نولي النّاس الأهمّية والقيمة. يجب ألّا نتخلّى عن سلطتنا الشخصيّة ونسلّمها للقادة، أو نظنّهم معصومين، كما يجب ألا نعطيهم السّلطة للتحكّم بشؤوننا الفرديّة، بل علينا أن نحترمهم، ونستمع إليهم، ونتبع قيادتهم الكتابيّة. إنّ قيادتهم الكتابيّة حماية مهمّة من المشاكل والشّرور التي تنشأ إمّا عن طريق الفوضى أو بسبب قلّة الخبرة وعدم استقرار الشباب. تخيّل ما ستكون عليه الكنيسة لو، من لحظة التجدّد، أصبحنا جميعًا قادرين على فعل كلّ ما يحسن في عيوننا، مدخلين كل فكرة تخطر في بالنا في العبادة وفي شهادة الكنيسة. ستكون النّتيجة كما في هذه الأيام (وللأسف هذا واقع العديد من الكنائس) هو اللّجوء للأفكار والحيل العالميّة المجنونة. لذا فقد فرض الله مبدأ القيادة والتّوجيه لتحقيق الاستقرار في الكنائس وحمايتها من الاندفاع والتسرّع وعدم الخبرة، رغم حسن نيّة الأفكار المقترحة (انظر، على سبيل المثال، عبرانيّين 13 :7، 13: 17 و 1 تيموثاوس 3 :6). من خلال السير في الدّرب الصحيح، ومن خلال الحس السليم، وما ينتج عن ذلك من استقرار، يتحقّق وعد الوصيّة – “تَطُولَ أيَّامُكَ عَلَى الأرْضِ”.

كما أنّ الوصيّة الخامسة تحفظ الشّباب من الفخر والغطرسة، عبر دعوتهم إلى احترام الشيوخ، ومنعهم من عمل ما يحسن في عينيهم.  نحن نعلم أنّ الشيوخ والأعضاء المتقدّمين في السّنّ في الكنيسة  قد يخطئون، ويجب ألّا نعتبرهم معصومين، لكن من الأفصل أن نعطي الأولويّة لهيكليّة الرّب ما لم يكن هناك أسباب كتابيّة واضحة تمنعنا من ذلك. في خطة الله لكنيسة الإنجيل، لا يجدر بالشباب والمؤمنين الحديثين أن يسارعوا إلى تسلّق سلّم السلطة والخدمة أو الأنشطة العامّة الأخرى قبل الوقت، حتّى لا يتملّكهم الغرور، ويسقطوا روحيًّا (كما يصف بولس الرّسول في 1 تيموثاوس 3: 6).

إنه لانتهاك واضح لروح الوصيّة الخامسة، أن تدفع الكنيسة الناس إلى تحمّل المسؤوليات أو إلى الخدمة عندما يكونون لا يزالون بالكاد في المهد الروحي. ليس هذا مجرد خطأ في الحكم، بل استهزاء في الوصيّة التي تحمل قدرًا من السلطة موازيًا لوصيّة القتل والزنا، ولكن الترقية المبكّرة في القيادة والخدمة شائع في الكنائس اليوم. فالكنائس تخضع لموجات موسيقى الروك الصاخبة، وفي العديد من الأماكن يتحوّل المنبر في أحيان كثيرة إلى “منصّة” للشّباب حتّى يجرّبوا فيها مهاراتهم ويسلّوا الناس. إنه تجاوز لأكثر من وصيّة واحدة، وهو بالتأكيد هجوم مباشر على إصرار الله على القيادة النّاضجة والحكم والتّوجيه في العبادة والتعليم ونشاطات الاهتمام الرعوي لكنائسه.

تؤسّس الوصيّة الخامسة أيضًا في الكنيسة طريقًا للانضباط، لأنها تعطي الحق للوالدين حتّى يؤدّبوا ويرشدوا ويقودوا. نلاحظ حقيقة أن الوصيّة تقول، “أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ”، ذاكرًا الاثنين لأنّ الإرشاد في الكنيسة لا ينطوي فقط على السّلطة والانضباط، بل أيضًا على الحبّ والرّعاية. إنّ الصّورة الأبويّة مناسبة جدًّا وقيّمة هنا، لأنّ للآباء والأمّهات يضعون أطفالهم الّذين ينمون على قلوبهم. يهتمّون بسلوكهم، ويشعرون بأطفالهم. إذا جُرح أحدهم أو تاه، يشعر الأهل بحمل كبير جدًّا على أكتافهم، كذلك في الكنيسة. على القادة الروحيّين أن يتمتّعوا بالمودّة والتّعاطف والتّفاهم، ويكونوا غيورين على حماية شعب الله وتشجيعهم. داخل بيت الله نجد دائمًا جيلاً يهمل الشّباب وينتقلون تدريجيًّا إلى عمر أكبر وأنضج، وينبغي لهؤلاء الأعضاء أن يرتدوا عباءة الرّعاية والاهتمام والمسؤولية والمودّة والحب، لأنّهم ينتقلون الآن من إكرام الأهل الروحيّين لممارسة الوالديّة الروحيّة.

رفض القيادة في الأيّام الأخيرة

في وصفه للانشقاقات الاجتماعيّة في “الأيّام الأخيرة” (في 2 تيموثاوس 3)، يذكر الرسول بولس بشكل خاص أن النّاس سوف يكونوا “غَيْرَ طَائِعِينَ لِوَالِدِيهِمْ”. بعبارة أخرى، لن يكونوا خاضعين لكل مستويات الأهل، سواء كانوا قادة المجتمع أو الآباء الطبيعيّين أو شيوخ الكنيسة أو التقاليد الكتابيّة القديمة التي تستحقّ كل الاحترام. سيكون الناس كذلك “غَيْرَ شَاكِرِينَ”، ويشمل ذلك المؤمنين الفخورين الّذين يَبْدُون غير مبالين تمامًا بالمصدر البشري لكلّ بركاتهم وامتيازاتهم. يشير الرسول بولس في وقت لاحق إلى الناس الذين هم “مُتَعَظِّمِينَ، مُسْتَكْبِرِينَ” ، الذين أعماهم التهوّر والغرور. هؤلاء ليس لديهم وقت لنظام الله، لذلك يجلبون اضطرابات لا تُحصى وحالة من عدم الاستقرار إلى المجتمع، وأيضًا إلى كنائس المسيح. إنّها بلا شكّ الأيّام التي نعيشها الآن، ويجب علينا أن نشجّع بعضنا البعض حتى لا نسمح لروح هذا العالم الحالي أن ينسكب على حياة كنائسنا. على الوصيّة الخامسة أن توفّر الرّاحة وتحفظ المجتمع، وتحفظ أساسًا الكنيسة، وتكبح الخطايا الأنانيّة والجامحة، وتحيي الحياة المسيحيّة وثقافتها. إنّ العمر الرّوحي المديد للكنيسة المباركة يعتمد على ذلك.

هذه هي الوصيّة الثّانية الإيجابيّة، لذلك فإنها “فضيلة إيجابيّة معاكسة”. مقابلها السّلبي هو الازدراء بالسّلطة الأبويّة على أيّ مستوى – في الحياة الأسريّة أو الوطنيّة أو الكنسيّة. تعكس الوصيّة الخامسة شخصيّة الله لأنّ اتساع رقعة الاحترام والإكرام هو جزء من شخصه، كما نرى في الوحدة والانسجام الكامل بين الأقانيم الثلاثة في الثالوث. سوف نرى في الأمجاد السماويّة الأبديّة كيف أنّ الله سيأتي بجميع المفديّين، وبجمهور الملائكة المقدسين، إلى حالة من الطّاعة الحرّة والكاملة لعبادته. هذه هي خطته العظيمة، التي تتوافق مع شخصه القدّوس ومع إرادته.