هل يرشد الرب حقًّا؟


إن السؤال الذي يتصدر عنوان هذا الفصل لم يكن أبدًا ليطرحه المؤمنون بكلمة الله منذ ثلاثين عامًا مضت، لأن ضرورة الحصول على إرشاد الله في جميع القرارات الأساسية في الحياة، كانت قناعة راسخة في ذهن كل أتباع المسيح. إنما أدّى تدهور نوعية التعليم الإنجيلي في العقود القليلة الماضية إلى رفض هذا المبدأ الثمين والأساسي- أن لله خطة محددة وهدف في حياة كل ولد من أولاده، وأنه ينبغي بهم أن يطلبوا إرشاده في جميع القضايا الأساسية في الحياة.

“فَالآنَ إنْ كُنْتُ قَدْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ فَعَلِّمْنِي طَرِيقَكَ” (خر 33 :13).
 


سنتأمل في الفصل الأول من هذا الكتاب بالرأي الجديد، ونثبت أن الرأي القديم هو الموقف الكتابي الصحيح. لنكن واضحين، يُفترض بنا قبل أن نعرف عن إرشاد الله، أن نبدأ بتسوية هذه المسألة: هل الله يرشد شعبه حقًّا أم لا؟ هل ينبغي بنا طلب مشيئته في القرارات المحورية في الحياة، أم نعمل ما نراه مناسبًا؟ إنّ طلب إرشاد الله لا يعني دائمًا أن نناشده أن يكشف لنا عن تفاصيل الطريق التي يريدنا أن نسلك فيها، بل أن نطلب إليه بوعي أن يرشدنا ويساعدنا على كبح جماح رغباتنا الأنانية، وعلى وزن الأمور ورؤية الإيجابيات والسلبيات، وتطبيق مبادئ الكلمة، وطلب نصيحة المؤمنين المقربين منا.
يتفرّد هذا الفصل الأول في كونه يورد أسماء مؤيدين رئيسيين للرأي الجديد، وهذه هي الطريقة الفضلى لتوضيح المسائل. على الرغم من أن هذا الفصل يدحض بشدة أفكار هؤلاء الواردة أسماؤهم، إلاّ أنه لا يتعرّض لإيمانهم الشخصي ولا يشكّك بمدى إخلاصهم. ومع ذلك، يرى الكاتب أن الرأي الجديد خطأ جسيم ويجب أن يُقاوم بشدّة لأنه يقوّض الطاعة الكتابية والتلمذة.

إطلاق “الرأي الجديد”


تمّ “إطلاق” الرأي الجديد والإعلان عنه عام 1980، عندما أصدر إنجيليّان أميركيّان هما غاري فريزين وروبن ماكسون، كتابهما المكوّن من 452 صفحة ليتحدّى وجهة النظر التقليدية عن الإرشاد، وكان تحت عنوان Decision Making and the Will of God (صنع القرار وإرادة الله).1 بين ليلة وضحاها، أصبح هذا الكتاب أحد الإصدارات الأكثر تأثيرًا في العالم الإنجيلي. فقد عدّ الكاتبان العدة لتقديم “بديل كتابي عن وجهة النظر التقليدية”، وشرعا بتقويض التعليم العريق في أن لله مشيئة خاصة لكل ولد من أولاده.
انضمّ بعد وقت قصير كتّاب آخرون إلى التيّار نفسه، مثال على ذلك كتاب قدّمه كاتب أكاديمي إنجيلي هو آرثر جونسون بعنوان – Faith Misguided: Exposing the Dangers of Mysticism (ضلال الإيمان: فضح مخاطر التصوّف).2 قدّم هذا الكتاب في أغلبيته مادة جيّدة، فقد عرّف بالتصوّف وفضحه، مبيّنًا كيف اخترق الأوساط الإنجيلية (ولا سيّما من خلال تعاليم واتشمان ني والحركة الكاريزماتية). ومع ذلك، وجّه المؤلف انتقادات واسعة النطاق لوجهة النظر التقليدية عن الإرشاد، مستشهدًا بـ”فريزين” و”ماكسون” ومؤيّدًا رأيهما، الذي يحارب الرأي التقليدي وينتقده بقسوة.
بدا مزعجًا رؤية هذا التيّار المتنامي ضدّ الإرشاد الشخصي “المحدّد”. وقد تشكّل هذا الرأي إلى حدٍّ ما، كرد فعل على ادّعاءات بعض المؤمنين بكونهم يتحرّكون بإرشاد مباشر من الروح القدس، منكرين بشكل خاطئ دور الله في الإرشاد ككلّ.
أكّد فريزين وماكسون مرارًا وتكرارًا في كتابهما على أننا: “لا نجد في الكتاب المقدس ما يؤيّد فكرة مشيئة الله الفردية لكلّ تفصيل من تفاصيل حياة الإنسان”. ولكنهما بتصريحهما هذا بيّنا مدى إساءتهما فهم وجهة النظر التقليدية، التي لم تزعم أبدًا بأن الله يرشد في كل التفاصيل الصغيرة في الحياة، إنما في المسائل الكبرى، كما سنشرح فيما بعد. أهمل فريزين وماكسون العديد من الأمثلة المذكورة في الكتاب المقدس عن توجيهات الله لعبيده، بحجة أن هذه الحوادث الفريدة، كانت نادرة ومتفرقة. بعبارة أخرى إنها لا تخصّنا اليوم. نحن نختلف معهما بشدة ونقول مع الأغلبية الساحقة من المعلمين المؤمنين القدماء، إن الغرض من هذه الأمثلة الكتابية هو إعلامنا بأن الرب يرشد شعبه.يرفض فريزين وماكسون نصوصًا محبّبة مثل أمثال 3: 5-6: “تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ. فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ.” ويدّعيان أن هذا المقطع لا يتحدّث أبدًا عن الإرشاد، لكن “حججهما” تبدو سطحيّة بشكل مخيف، وقد فشلا حتى في الأخذ بعين الاعتبار اختيار كلمات سليمان- طُرُقك وَسُبُلك. (سنتوقف عند أهمية هاتين الكلمتين لاحقًا في هذا الفصل).

“للمؤمنين حريّة الاختيار”


إن الفكرة الرئيسيّة في كتاب فريزين وماكسون هي أن للمؤمنين مطلق الحرية في أن يتّخذوا القرارات الكبيرة أو الصغيرة بأنفسهم، شريطة أن يأخذوا بعين الاعتبار عند اختيارهم، إرشاد الكتاب المقدس الأخلاقي. هل يجدر بنا أن نتزوج؟ ممّن؟ يصرّون على أن العهد الجديد “لا يقدّم أي دليل عن أن مشيئة الله الفردية تشمل هذه القرارات. بدلاً من ذلك، عندما يتمّ التطرق لهذه المواضيع، فإنهم يدّعون أن الله ترك لنا الحرية في أن نختار الزواج وممَّن نتزوج. . .  وهذا مثال نموذجي عن مبدأ الحرية ضمن المشيئة الأخلاقية لله”.
من المغري الردّ على العديد من الأمثلة والتفاسير والأفكار الخاطئة التي يعجّ بها كتاب فريزين-وماكسون، ولكن غرضنا في هذا الفصل هو تحديد الطبيعة الحقيقية للإرشاد الإلهي ومجاله. باختصار، إن الحجج التي قدّمها فريزين وماكسون والمؤلفون الآخرون ضد طلب الإرشاد الشخصي لله هي التالية:
(1) يعتبر الله المؤمنين بالغين وناضجين وقادرين على اتخاذ قراراتهم بأنفسهم.
(2) يعطي الله شعبه شرف الاختيار الشخصي في كل المسائل الرئيسية والثانوية.
(3) يريد الله من شعبه أن يتعلّموا كيفية اتخاذ قرارات حكيمة على ضوء القواعد الأخلاقية والعامة للكتاب المقدس.
(4) قصد الله هو أن ينمو شعبه في الحكمة والمسؤولية، وألا “يسلّموه” مسؤولية اتخاذ القرارات.
لا شكّ في أن هذا الرأي الجديد ضرّ كثيرًا بتفاني والتزام العديد من المؤمنين. من الواضح أنه بمجرد أن نكفّ عن احترام مشيئة الله المحدّدة لحياتنا، حتّى نجد أنفسنا تحت رحمة ميولنا ورغباتنا الشخصية، التي تتضافر للتأثير على قراراتنا أكثر مما ينبغي، وسنجد أنه من السهل تبرير أهوائنا والانغماس فيها. أيضًا، بمجرد أن نتحرّر من واجب الخضوع والأمانة لمشيئة الله، سنبتعد بسهولة عن الدعوات الصعبة والمواقف المزعجة. من الملاحظ أنه حيثما نجد الرأي الجديد سائدًا، نجد عددًا أقل من الناس يجتهدون في عمل الرب، وعددًا أقل من معلمي مدارس الأحد، وخدّام أقل مكرسين لزيارة بيوت المنطقة، بينما نجد بالمقابل تعلقًا أكبر بوسائل الراحة وتفرغًا لحياتنا الشخصية.
يتحدث كتاب فريزين-وماكسون عن كاتب سعى للحصول على وظيفة مدرّس في إحدى كليّات اللاهوت، وما نراه هو موقف وصولي عالمي وليس موقف خادم كلمة. إنه مثال محزن عن نهج “افعل ما يحسن في عينيك” والّذي ينتج عن عدم التصديق بأن لله خطة لحياتنا. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن هؤلاء المؤلفين يعتقدون أن الله يدعو الناس للخدمة بصورة عامة فقط، وأنه لا يقدّم دعوة لكنائس معيّنة، كما أنه لا يحدّد مدة تلك الخدمة. باتباع الرأي الجديد لن يشعر أي خادم مؤمن كان، أو علماني بالخوف من التخلي عن مهامّه لأنه غير ملتزم بعمل مشيئة الله.
 

انتقاد الإرشاد التقليدي


عند إبراز قضيّتهم، يسيء المعلمون المؤيدون للرأي الجديد تقديم الرأي التقليدي ويسخرون منه. أحد الكاريكاتير عن الرأي التقليدي يختزله بثلاث مراحل: (1) العودة إلى الكتاب المقدس. (2) مراقبة إشارات الله في ظروفك. (3) مراقبة مشاعرك الداخلية، على سبيل المثال: الشعور بالسلام. يبدو بوضوح أنّ مثل هذا المخطط البسيط لطلب الإرشاد غير كافٍ، لأن الرأي التقليدي الكتابي أكثر من ذلك كما سنرى.
إن الحجة الأكثر شيوعًا المستخدمة ضد الرأي التقليدي للإرشاد، هي أنه غير نافع لأنه يصعب تطبيقه على جميع القرارات، الكبيرة والصغيرة. على سبيل المثال، سخر آرثر جونسون من المؤمنين التقليديين الذين يطلبون إرشاد الله في القرارات الكبرى وليس الصغرى، فكتب يقول: “يجتهدون لمعرفة قرار الله الفريد لاختيارات حياتهم. ومع ذلك، عدد قليل جدًّا منهم يحاول أن يتبع الاستراتيجيّة نفسها في القرارات الصغيرة: أي حذاء يرتدون أولاً في الصباح، اختيار البرتقال في الفطور أم استبداله بالعصير”. يبدو أن الدكتور جونسون يعتقد أنه إن كان الله لا يرغب في تحديد قائمة فطورنا، فإنه لن يرغب بالتأكيد في إرشادنا في قرار الزواج.
يقدّم ناقد آخر فكرة مشابهة عن معجون الأسنان، ويسأل بازدراء كيف لنا أن نعرف أي ماركة تجارية أو نكهة يريدنا الله أن نشتري. ويفكر أنّه إن ترك الله قرار اختيار معجون الأسنان لحسّنا السليم، لماذا لا ينطبق ذلك أيضًا على القرارات الكبرى؟ على أي أساس كتابي، يطلب هؤلاء النقّاد التمييز بين القرارات التي لله مشيئة محددة فيها، وبين تلك التي ليس له فيها مشيئة محددة؟ يرد الردّ على هذا النقد في المقاطع الكتابية في الصفحات التالية.
يبقى أن نذكر نقدًا إضافيًّا آخر عن الإرشاد التقليدي. يقول النقّاد إنّه إذ يجد المؤمنون أنفسهم غير فعّالين في طلب “مشيئة الله الكاملة”، ويقترفون أخطاء كبيرة حين لا يصيبون الهدف، يبرّرون النتائج الخاطئة بأن يسمّوها “ثاني أفضل خيار لله” (خطة ب)، لا يمكن لذلك أن يتفق مع مفهوم سيادة الله. هل هذا النقد صائب؟ هل يمكن الانحراف عن خطة الله وإحباط مشيئته لنا؟ بالطبع لا، لأن المؤمن لا يخرج أبدًا عن مشيئة الله. إذا فشل في طلب إرشاده الصحيح، وسار بحسب هواه، تكون النتائج “الخاطئة” هي مشيئة الله. في ظروف مثل تلك، تكون مشيئة الله أن نعاني من العواقب الوخيمة، ومن بعض الحزن ربما، وأن نضيّع الفرص الروحية، أو أن نواجه حتى بعض التأديب الصعب.
إنها مشيئة الله المخطّط لها منذ الأزل، بأن نمرّ باختبارات تدرّبنا على الطاعة الحقيقية، وتقدّسنا. لذلك، حتى عندما نخطئ لا نخرج أبدًا عن مشيئته المقدّسة والحكيمة. نقرأ في رومية 8: 28 – “وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّ الأَشْيَاءِ تَعْمَلُ مَعاً لِلْخَيْرِ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَ اللهَ الَّذِينَ هُمْ مَدْعُوُّونَ حَسَبَ قَصْدِه”، إذًا حتى الأخطاء ستؤول لتقديسنا في النهاية.
صدر حديثًا كتاب يروّج مجدّدًا للتصدّي للإرشاد الإلهي بعنوان (Is That You Lord? ) (هل هذا أنت يا رب؟) للدكتور غاري أ. جيلي، وهو يركز كثيرًا على تثنية 29:29 – “السَّرَائِرُ لِلرَّبِّ إِلهِنَا وَالمُعْلنَاتُ لنَا وَلِبَنِينَا إِلى الأَبَدِ لِنَعْمَل بِجَمِيعِ كَلِمَاتِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ”. في هذا التفسير الغريب يزعم الدكتور جيلي أنّ المقصود بهذه الآية أنّه إذا واجه المؤمن قرارًا لم يُعالج بشكل واضح في الكتاب المقدس، لا يجدر به أن يسعى لطلب مشورة الله، بل عليه أن يتخذ القرار بنفسه. ويقول إن السعي لطلب مشيئة الله غير المعلنة، والسرية، هو ضرب من التصوفّ البحت أو التديّن. (كتب كاتب آخر مؤخرًا مستشهدًا بالمقطع نفسه، وشبّه طلب مشورة الله بالوثنية). بعبارة أخرى، بما أنه لم يتمّ الكشف عن اسم زوجة المؤمنة أو الزوج المستقبلي في الكتاب المقدس، لا يمكن لذلك الشخص أن يحصل على إرشاد الرب. إن الكاتبين المشار إليهما مصلحَيْن من حيث العقيدة، وإن بَيَّنَ ذلك شيئًا بَيَّنَ مدى انتشار هذا الرأي على الرغم من طابعه غير الكتابي، وغير الروحي، وغير الطهوري.
وفقًا لهؤلاء الكتّاب، إذا كنّا مثلاً نسعى طلبًا لوظيفة، فبما أنه لم يُذكر أي صاحب عمل معاصر في الكتاب المقدس، سيكون مستقبلنا جزءًا من مشيئة الله الغيبية والسرية، ولن نجد ما نطلبه من إرشاد. إنهم يصرّون مرارًا وتكرارًا على أن الله لم يعطِ أي تعليمات في العهد الجديد للمؤمنين حول طلب مشيئته في أي من القضايا الكبرى في الحياة، مثل أين نعيش؟ ممّن نتزوج؟ ولا حتّى إذا ما كنا نسعى إلى دخول مجال خدمة الكلمة أم لا؟ ولكننا نعتقد أن هذا الفكر الخاطئ من شأنه أن يدفع المؤمنين بعيدًا جدًّا عن حياة الطاعة والتكريس لله.


مثال المسيح ربنا


وردًّا على زعم غياب تعليم في العهد الجديد عن طلب الإرشاد، يجب علينا أولاً أن ننظر إلى مثالنا الأوفى والأكمل وقدوتنا الإلهي، ربنا ومخلصنا، الذي نفّذ مشيئة الآب بحذافيرها عندما عاش حياة الطاعة الكاملة نيابةً عنا. كيف يمكن لهؤلاء الكتّاب أن يزعموا أن السعي إلى طلب هدف الله ومشيئته غير واردٍ في العهد الجديد؟ من الغريب أن يجهلوا لاهوت المسيح في هذه المسألة، ممّا يشير إلى تماديهم في الانغماس في فكر”الرأي الإنجيلي الجديد” للكتاب المقدس. “لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ” كانت هذه صرخة الرّب يسوع إلى الآب بينما كان يمثّل شعبه، ويعيش حياة كاملة نيابةً عنهم.
وأعلن أيضًا: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ يَقْدِرُ الاِبْنُ أَنْ يَعْمَلَ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئاً إِلاَّ مَا يَنْظُرُ الآبَ يَعْمَلُ. لأَنْ مَهْمَا عَمِلَ ذَاكَ فَهَذَا يَعْمَلُهُ الاِبْنُ كَذَلِكَ… لاَ أَطْلُبُ مَشِيئَتِي بَلْ مَشِيئَةَ الآبِ الَّذِي أَرْسَلَنِي” (يوحنا 5: 19 و 30). تكرّر الحديث عن مشاعر الرب هذه في إنجيل يوحنا 6: 38، و8: 28 وهي تشكل أساسًا لاهوتيًّا لا يمكن الاستغناء عنه عن الخضوع لمشيئة الله المعيّنة لحياتنا، في كل الطرق الرئيسية، والسبل، ومفترقات الطرق والمنعطفات.
حقيقة أن طاعة الرب الكاملة كانت جزءًا أساسيًّا من خطة الخلاص تبيّن أن هذا ما كان متوقّعًا منا. ليس العبد أعظم من سيده (قال المسيح)، من غير المنطقي أن يحتاج السيّد إلى عيش مثل هذه الطاعة ليخلّصنا، ثمّ أن يترك لنا الحرية لعمل ما يحسن في أعيننا، طالما أننا نحفظ السلوك الأخلاقي. الواقع عكس ذلك، فحياة مخلصنا تقنعنا أن نصلّي بدورنا: “لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ”.
هناك دليل آخر على واجب الخضوع لمشيئة الله وهي فكرة التلمذة التي تطرحها الأناجيل وأعمال الرسل. فقد كان التلميذ حرفيًّا، هو من يمشي وراء معلمه المختار، متمسكًا بكل كلامه ومنفذًا لوصاياه. ترمي كلمات المسيح المسجّلة في يوحنا 10 إلى ما هو أبعد من لحظة الخلاص: “لِهَذَا يَفْتَحُ الْبَوَّابُ وَالْخِرَافُ تَسْمَعُ صَوْتَهُ فَيَدْعُو خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ بِأَسْمَاءٍ وَيُخْرِجُهَا.

وَمَتَى أَخْرَجَ خِرَافَهُ الْخَاصَّةَ يَذْهَبُ أَمَامَهَا وَالْخِرَافُ تَتْبَعُه.” وهذا يشمل بلا شك الحياة المسيحية بأكملها، ونحن نرى بالتأكيد كلمات المزمور 23 المنصوص عليها في هذا الفصل العاشر من يوحنا.
إن وعد الرب باستجابة الصلاة في يوحنا 15 :7 مقترن بالتأكيد بطلب إرشاد الله العلوي: “إِنْ ثَبَتُّمْ فِيَّ وَثَبَتَ كلاَمِي فِيكُمْ تَطْلُبُونَ مَا تُرِيدُونَ فَيَكُونُ لَكُمْ.” كثيرًا ما نسأل: “يا رب، ماذا تريدني أن أفعل في حياتي؟ في أي مجال تريدني أن أتخصص؟ بمن تريدني أن أتزوج؟ كيف لي أن أخدمك؟ يا رب ارشدني، حدّد أفكاري، أعطني بصيرة لأحسن الحكم، قوّم اعوجاجي، ونجّني من المنعطفات الخاطئة”.
إليكم المفهوم الطهوري عن الإرشاد كما عبّر عنه ريتشارد باكستر في دليله الإيماني العظيم:
“عندما تفهم أنّك ملكٌ لله وتوافق على ذلك، سوف تدرك أن كل قوة جسدك وروحك مكرّسة لخدمته، فما من شيء في الدنيا له نفس الحق بالاستحواذ على أفكارك، أو حتى على جزء من مشاعرك، أو دقيقة من وقتك. أبقِ دفاتر حساباتك مفتوحةً أمام الله، ودعه يأخذ ما له. إن إخضاع النفس لإرادته المجيدة أمر ضروري”.
هذا هو الفكر الطهوري الذي يُرفض اليوم، إنما يجب أن نتمسك به، لأنه وحده السبيل إلى الحياة المسيحية الحقيقية، وبمجرد فقدانه تصبح الحياة المسيحية بلا هدف، ولا التزام، ولا استخدام، ولا اطمئنان، حياة عالمية إلى أقصى الحدود.
 

“طرق وسبل” مبدأ الإرشاد


ننتقل الآن إلى عدد من مقاطع الكتاب المقدس التي تبيّن حاجة المؤمنين إلى طلب معونة الله للحصول على الإرشاد في جميع القرارات المتعلقة بمسار الحياة العام أو توجهها. أوّلاً، إنّ صلاة موسى في سفر الخروج 33: 13 مهمة جدًّا بالنسبة لنا: “عَلِّمْنِي طَرِيقَكَ.” فأجابه الرب: ” وَجْهِي يَسِيرُ فَأُرِيحُكَ”. أهم ما تعبّر عنه هذه الكلمات هو أن كلّ رحلات موسى ستكون بتوجيه من الله، وأنه سيحصل على إرشاده أو إشرافه على الرحلة. صحيح أن الشعب عانى من التيه في البرية، ومن ثمانية وثلاثين عامًا من السفر، ولكن على الرغم من إرباك الرحلة وامتدادها إلا أن موسى شعر بالتأكيد بقيادة الرب لأنه طلبها.
لم يطلب موسى أن يكشف له الله الجدول اليومي للرحلة بالتدقيق، أو أن يعطيه توجيهات مفصّلة لجوانب الحياة اليومية الروتينية والعملية، إنما طلب أن يوجّه الرحلة، والطريق ويتحكّم بوجهتها. إن الذين انتقدوا الإرشاد الإلهي ساخرين بالمؤمنين الذين يختارون لأنفسهم قوائمهم اليومية، ورغم ذلك يطلبون مساعدة الله عند اختيار مهنتهم أو في قرار زواجهم، فشلوا في التأمل بميزة أساسية لهذه النصوص الرائعة عن الإرشاد، وهي أنها تعلّمنا أن نطلب توجيهات الله المعيّنة في جميع المسائل المتعلقة برحلة الحياة – منعطفاتها وطرقها الفرعيّة. إن الدرس الرئيسي الذي يتعيّن بنا استخلاصه من سفر الخروج 33: 13 هو استخدام أسلوب كلمة الله- “عَلِّمْنِي طَرِيقَكَ.” التي قصدها موسى حرفيًّا. إن الكلمة العبرية “طَرِيقَكَ” تشير إلى الطريق المجرّب (فالاسم يأتي من الفعل سار.) سأل موسى الرب عن المسار المعيّن لشعبه.
ولكن هل يحقّ لنا أن نستخدم اختبارات موسى كمثال عن كيفية توجيه الله للمؤمنين في الوقت الحاضر؟ نعم يحقّ لنا ذلك، وهذا ما يقوله الكتاب المقدس، ففي 1 كورنثوس 10 :1- 12، يوضّح بولس أن رحلة خروج بني إسرائيل على وجه التحديد سُجّلت لتكون عبرة لمؤمني العهد الجديد، فيقول: “هَذِهِ الأُمُورُ حَدَثَتْ مِثَالاً لَنَا حَتَّى لاَ نَكُونَ نَحْنُ مُشْتَهِينَ شُرُوراً كَمَا اشْتَهَى أُولَئِك.” بعبارة أخرى، إن مسار أو طريق موسى وبني إسرائيل يمثّل رحلة حياة المؤمنين في الوقت الحاضر.
لا يصعب بالتأكيد التمييز بين المسائل الروتينية، والمسائل المتعلقة مباشرة برحلة الحياة. واضح مثلاً أن الغذاء اليومي ليس مسألة متعلقة بمسار الحياة، ولا بالدعوة الروحية والثمر، كذلك اختيار السيارة التي سنشتريها لا يتعلق بمسار الحياة، على الرغم من أن الرب سيساعد في البحث وفي الاختيار استجابةً للصلاة. إنما على غرار كل السلع الباهظة الثمن، يجب أن يخضع اختيار السيارة لقواعد الكتاب المقدس، ويخلو من الطمع والرفاهية والمصروفات الزائدة، ولكنه ليس قرارًا مصيريًّا مهمًّا يؤثر على رحلة الحياة. بينما من ناحية أخرى، يؤثر اختيار شريك الحياة على كافة أجزاء رحلة الحياة، كذلك اختيار المهنة، ومكان العيش، وأيضًا اختيار الزملاء في الكنيسة.


في نص توجيهي عظيم آخر، في مزمور 25 :4، يستخدم داود الحقل المعجمي للسفر، على الرغم من أنه ليس في رحلة. إنه يستخدم لغة السفر مجازيًّا للإشارة إلى مسار حياته، مصلّيًا، ” طُرُقَكَ يَا رَبُّ عَرِّفْنِي. [حرفيًّا: الطرق المجرّبة] سُبُلَكَ عَلِّمْنِي.”[حرفيًّا: طرقك التي تسلكها أثناء سفرك، أو مساراتك]. إنه يستخدم هذه المصطلحات كما استخدمها موسى. يقول المروّجون “للرأي الجديد” إن داود يطلب فقط حياة التقوى، ولكنهم بذلك يقزّمون المعنى في النص ويشوّهونه، خاصة وأن المزمور يعجّ بالمفردات الخاصة “برحلة الحياة”.
 

في مزمور 27: 11 يستخدم داود مرة أخرى التعابير نفسها: “عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ وَاهْدِنِي فِي سَبِيلٍ مُسْتَقِيمٍ بِسَبَبِ أَعْدَائِي.” ويشير مصطلح الطريق والسبيل إلى جوانب رئيسية في حياة داود.


في مزمور 32 :8 -9 تظهر كلمة “طريق” مرة أخرى، ولكن يقترن بها هذه المرة صورة الفرس أو البغل، الذي يجب أن يكون بالتأكيد بقيادة قائد. ومع ذلك، نرى هنا الرب بنفسه يقول: “أُعَلِّمُكَ وَأُرْشِدُكَ الطَّرِيقَ الَّتِي تَسْلُكُهَا. أَنْصَحُكَ. عَيْنِي عَلَيْكَ. لاَ تَكُونُوا كَفَرَسٍ أَوْ بَغْلٍ بِلاَ فَهْمٍ. بِلِجَامٍ وَزِمَامٍ زِينَتِهِ يُكَمُّ لِئَلاَّ يَدْنُوَ إِلَيْكَ.” اقترف داود خطية كبيرة، إنها على الأرجح الخطية المرتبطة ببثشبع، وهنا (كما في مزمور 51) حكم على خطيته، وتاب. لم يعد عنيدًا كالفرس أو البغل، بل استجاب لإرشاد الله.
يدّعي مروّجو الرأي الجديد عن الإرشاد بأن فكرة المزمور الرئيسية تنحصر فقط بسلوك داود، وأنها لا تمتّ للإرشاد بصلة. ولكن الفكرة الملفتة هنا هي أن داود لم يخرج فقط عن المعايير الأخلاقية، لكنه تخلّى عن طلب مشيئة الله واتّباعها في المسائل الرئيسية في الحياة؛ المسائل المتعلقة بمستقبل مملكته وأيضًا بمستقبله الشخصي. فهو تخلّى عن قيادة المعركة، بل وأجرى علاقة حميمة أثّرت سلبًا على كل حياته. المشكلة ليست فقط في فجوره، بل أيضًا في أنه اختار لنفسه الموقع، والدور الذي سيؤديه.
لذلك تطالبنا هذه الآيات بأن نخضع لإرشاد الله في طريق الحياة أو سبيلها، وهذا يشمل المسائل الرئيسية. فكما تحتاج الفرس إلى توجيهات واضحة ممّن يمتطيها، كذلك نحن بحاجة إلى إرشادات الرب لكي نعرف كيف نخدمه. ينهينا هذا النص عن أن نختار لأنفسنا أين نذهب وماذا نفعل، حتى ولو بدت قراراتنا حكيمة. هذا النص هو أمر، وتحذير، ووعد في آنٍ واحد.


في مزمور 37: 5 يقدّم لنا داود هذه الكلمات المحبّبة جدًّا على قلوبنا– “سَلِّمْ لِلرَّبِّ طَرِيقَكَ (الطريق المجرّب) وَاتَّكِلْ عَلَيْهِ وَهُوَ يُجْرِي.” بما أن هذا المزمور يقارن بين نمط حياة المؤمن ونمط حياة غير المؤمن، يفهم البعض هذا المصطلح إلى أنّه يشير إلى نمط حياة أحدهم، ولكن بما أن الفكرة الرئيسية والبارزة في المزمور هي “رحلة الحياة” (يُشار إلى مكافأة الصِّدِّيق مرارًا وتكرارًا في المستقبل البعيد)، يكون المعنى الأساسي بوضوح هو اتجاه أو مسار الحياة، أو سياسة القرارات الكبرى. بهذه الطريقة فهم المفسرون المسيحيون النص لعدة قرون مضت، ولكن الكتّاب أتباع “الرأي الجديد” ينفونها عنه بكل وقاحة.
يعرّفنا مزمور 48 :14 بمصطلح ثاني مهم: “لأَنَّ اللهَ هَذَا هُوَ إِلَهُنَا إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. هُوَ يَهْدِينَا حَتَّى إِلَى الْمَوْت.” أي نوع من الإرشاد مقصود هنا؟ إن الكلمة العبرية “يهدينا” تعني يسوقنا، كما يسوق الحيوانات أو العربة. بعبارة أخرى، يبدو هذا المرشد قائدًا أو سائقًا يحدّد الاتجاه. إن سياق الآية هو رحمة الله وأمانته، اللتان تحددان كنز شعبه وشؤونهم طول الطريق وإلى القبر. إن اختزال هذه اللغة المجيدة لجعلها تنطبق فقط على الإرشاد الله من خلال المعايير الأخلاقية فقط (كما فعل فريزين وماكسون) يقوّض مجدّدًا المعنى الواضح لكلمة الله الموحى بها. لقد اختار الرب في هذا المزمور صورة بيانية لوصف دوره في الشؤون الأهم في حياة شعبه، ألا وهي صورة المرشد الذي يعرف أفضل من الحيوانات أي اتجاه يجب أن يُؤخذ، والذي يؤثّر طبعًا على مسار الرحلة.
إن الكلمات المألوفة في أمثال 3 :5-6 تعيدنا إلى الحقل المعجمي لرحلة الحياة المعبَّر عنه في “الطرق والسبل”، فيقول سليمان: “تَوَكَّلْ عَلَى الرَّبِّ بِكُلِّ قَلْبِكَ وَعَلَى فَهْمِكَ لاَ تَعْتَمِدْ. فِي كُلِّ طُرُقِكَ اعْرِفْهُ وَهُوَ يُقَوِّمُ سُبُلَكَ.” إنّ معارضي الرأي التقليدي للإرشاد يحاربون بشدة معنى كلمة – يُقَوِّمُ (يقود). إنهم لا يريدون أن يروا الله يقود القرارات المهمة في الحياة، ويسارعون إلى الإشارة إلى أن الكلمة الأصلية في العبريّة تعني- يجعل الطريق مستقيمًا أو ميسّرًا، ويزعمون متسلّحين بهذه الترجمة أن النص يَعِدُ فقط بحياة مباركة لجميع الذين يحفظون وصايا الله.


ولكن تفسيرهم يقلّل مجدّدًا من شأن كلمة الله، على الرغم من أن المعنى الواضح يبيّن إلهًا “منفّذًا، مشرفًا، يقوّم طريق الحياة”. بعبارة أخرى، إذا أهملنا الاعتراف بالرب كالملك الأعلى في حياتنا، ستختلّ طرقنا وتلفّ وتدور باطلاً وبشكل محبط، وتكون رحلتنا غير فعالة وبلا ثمر. ولكن، إذا نبذنا إرادتنا الخاصة وحريتنا في تقرير المصير، وطلبنا قيادته، سينظّم طريق حياتنا ويجعل رحلتنا مباشرة وهادفة. إن المصطلحات مصمّمة لتظهر أن الله نفسه سيفعل شيئًا في مسار رحلتنا وطبيعتها، وأن من حقّه أن يقودنا في القرارات الكبرى.
نجد أيضًا في إشعياء 58: 11 وعدًا آخر عظيمًا بالإرشاد، نفاه الكتّاب أتباع الرأي الجديد، فيقول النبي: “وَيَقُودُكَ الرَّبُّ عَلَى الدَّوَامِ”. والسياق (الآيات 6-12) مشروط، إذا كان المؤمن مملوءًا شفقة ورأفةً بالمنكوبين (وهو بالنسبة لنا أن نشهد للمحتاجين روحيًّا)، حينئذٍ يبارك الله ذلك المؤمن صاحب التأثير البارز، والنور، والإرشاد. إن الكتّاب المحاربين للإرشاد يحصرون الوعد بفكرة أننا إذا كنا رحماء وصالحين، سيعتني بنا الله، معمّمين لاستبعاد عنصر الإرشاد. ومع ذلك، فإن الكلمة العبرية المترجمة “يرشد” تعني ذلك حرفيًّا. يمكن استخدامها في حالة ملك فاتح ينقل السجناء إلى المنفى، في هذه الحالة نجد الملك هو من يحدّد الطريق – وليس السجناء. والكلمة أيضًا مستخدمة بمعنى الحكم، التوجيه، الإجبار والمنع. إنها كلمة “تنفيذية” قوية تعني بلا شك ما تفيده – أن مشيئة الرب تتفوّق في حياة المؤمن الرؤوف وتديرها بحسب طبيعتها المجيدة، الحكيمة، اللطيفة والكاملة.
تبيّن هذه المقاطع المألوفة في العهد القديم بدون شك أنه يجدر بنا طلب إرشاد الله المباشر والخضوع له في القرارات الكبرى وليس تلك الصغيرة. أما السخرية بأنه يستحيل التمييز بين القرارات التي يجب أن يتّخذها الله، والقرارات التي يجب أن نتخذها بأنفسنا، فإن لغة “الطرق والسبل” في الكتاب المقدس تتجاهلها.

نصوص الإرشاد في العهد الجديد
ماذا عن العهد الجديد؟ يزعم بوقاحة الكتّاب، مناصرو الرأي الجديد، أنه ما من وعود فيه تبيّن بأن الله يرشد شعبه؟ لقد سبق وتأملنا بمثالنا الأسمى، مخلصنا، الذي أخضع نفسه لإرادة الآب نيابةً عنا. ونرى التمييز الذي وضعناه بين المسائل الرئيسية في طلب الإرشاد في الحياة، والمسائل الروتينية الأقل أهمية، من خلال كلمات مخلصنا المسجلة في متى 6: 25، إذ يقول الرب: “لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ وَلاَ لأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ الْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ الطَّعَامِ وَالْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ اللِّبَاس؟” إن الغرض من هذا المقطع هو التعليم عن الأولويات الحقيقية، وإنه يجب علينا أن نضع دائمًا الله أوّلاً، وأن نميّز بين شؤون الملكوت وشؤون الأرض. لا ينبغي بنا أن نقلق بشأن الطعام والملابس، أو بشأن التفاصيل الروتينية الخاصة باليوم التالي، كما نهتمّ بطاعة الرب.
كمؤمنين، يطلب منا الرب أن نتدبّر أمر مسائل الحياة العملية واليومية بهدوء، كمؤمنين مسؤولين. ويحذّرنا من القلق المفرط بشأن الأشياء المادية اليومية، ويدعونا لأن نكون ببساطة واعين وأتقياء في قراراتنا. نحن نعرف معايير الرب، فقواعد كلمة الله واضحة- لا تكن طماعًا، لا تكن فخورًا، لا تكن مسرفًا، لا تكن من العالم، وهلمّ جرّا. ومع ذلك، فإن حالة الروح، وخدمة الله، والرحلة الشاملة للحياة هي في يد الله، لأنها تتطلب مستوًى مختلفًا تمامًا من الفكر، فالمسألة ليست قضية عادية، بل مسألة كبيرة وطويلة الأمد. لذا تحتاج منا أن نطلب إرشاد الله وإشرافه.


يعطينا أعمال 13 :2-3 نظرة واضحة عن الله الذي يمارس إرشاده السيادي من خلال  المبشرين المسيحيين الأوائل للخروج من أنطاكية. كقادة للكنيسة “كانوا يَخْدِمُونَ الرَّبَّ وَيَصُومُونَ، قَالَ الرُّوحُ الْقُدُسُ: “أَفْرِزُوا لِي بَرْنَابَا وَشَاوُلَ لِلْعَمَلِ الَّذِي دَعَوْتُهُمَا إِلَيْهِ”.”

علّم هذا الحدث الأجيال السابقة من مؤمني الكتاب المقدس أن الذين ينخرطون في الخدمة التبشيرية يجب أن يحصلوا على دعوة من الله لهذا العمل. إنهم يتوقعون أن يشعر المبشّر بهذه الدعوة، وتكون له رغبة داخلية قوية بهذه الخدمة، وأيضًا أن يؤيّدها قادة كنيسته، الذين يثبتون ملاءمته ومواهبه واستعداده.
ومع ذلك، يبدو لمروّجي الرأي الجديد أنّ دعوة برنابا وشاول حدث آخر “شاذ”. فقد افترضوا أن دعوتهما خاصة من الله لأنهما من عداد المبشرين الأوائل، لذا ينبغي النظر إلى دعوتهما على أنها حدث فريد من نوعه، لأنه تمّ الإعلان عن مشيئة الله عبر التواصل المباشر الخارق للطبيعة، الذي لن يتكرّر اليوم. والنتيجة أنه لا يُفترض بنا البحث عن دعوة شخصية من الله، بل علينا أن نختار ببساطة، وبحكمتنا الخاصة، الأشخاص الأنسب للتبشير.
هذا النهج “العقلاني” الجديد لاختيار خدّام الله يبرّر نفسه عبر الادّعاء بأن بولس لم يبحث عن توجيه محدّد من الله في أحداث تبشيرية أخرى، فإنهم يزعمون أنه عندما اقترح مثلاً القيام برحلة تبشيرية ثانية (أعمال الرسل 15: 36)، أو عندما اتّخذ قرار الانفصال عن برنابا، أو عندما اختار سيلا كزميل عامل (أعمال 15: 39-40)، وصل بولس إلى كل هذه القرارات بنفسه، لكونه مؤمنًا ناضجًا وحكيمًا.
(يقول هؤلاء الكتّاب) إن بولس اختار تيموثاوس للانضمام إلى إرساليته لأنه أعجب به من جهة، ولأنّ آخرين مدحوه من جهة أخرى. يقول فريزين وماكسون: “لقد تبيّن مرة أخرى أن مؤهلاته الروحية، وليس دعوته، هي من حسمت قرار اختياره”. ومع ذلك، يبدو أن هذين المؤلفين لا يعرفان شيئًا عن 1 تيموثاوس 4: 14، حيث نقرأ عن أن موهبة تيموثاوس واستخدامها، جاء نتيجة أن الله اختاره، وكشف عن اختياره لقادة الكنيسة. إن هذا النص الواحد يكفي لدحض وتقويض صفحات عديدة من المزاعم الكاذبة.
سيطول بنا الوقت إن قمنا بتصحيح كل الحجج الزائفة التي قدّمها أولئك الذين يعارضون بشدة إرشاد الله التقليدي، لذا نكتفي بهذه النماذج القليلة التي ذكرناها. حين غفل راوي كلمة الله عن ذكر طلب بولس لإرشاد الله، استغلّ هؤلاء الكتّاب الفرصة ليفترضوا بأنه لم يفعل، ويشرّعوا ذلك. من وجهة نظرهم، لم يظنّ بولس أنّه من الضروري السعي لطلب مشيئة الله المحددة في تحركاته، أو تعيينه “للخدام”، لذا بادر لأن يتخذ بنفسه قرارات عقلانية حكيمة. ففي حين توضّح كلمة الله أن الرب هو من يصنع هذه القرارات لعبيده، يرفض كتّاب الرأي الجديد ذلك ويعتبرونه حالة شاذة حدثت فقط “مرة واحدة”. وأنها ليست القاعدة لتفسير الكتاب المقدس! يجدر بنا أن نعترض على الأسلوب الإنساني، والعقلاني المقلّل من شأن كلمة الله الذي يعتمده هؤلاء الكتّاب الذين يسعون للتحرّر لصنع قراراتهم بأنفسهم وإرضاء أنفسهم في حياتهم المسيحية.

بالعودة إلى أعمال 13: 2، نجد سابقة لحياة الكنيسة في كل عصر، ليس بالطريقة التي يعلن بها الله عن مشيئته، إنما من حيث المبدأ القائل بأن إرادته هي الهدف الأسمى في خدمة الكنيسة المستمرة. كانت إرادة الله أن ينطلق المبشرون، وقد اختار كل فرد، وإذ علموا أن الله دعاهم، كان المبشرون واثقين من جدوى عملهم مهما اشتدت الصعوبات. مع هذا اليقين داخلهم، لم يتخلوا بسهولة عن العمل، لأنهم تحت قيادة الله المباشرة وفي حمايته، ويعملون بتفويض خاص منه.


كلمات بولس عن الإرشاد


يجب أن نستمع إلى بولس الذي استطاع أن يقول عن نفسه كواعظ، “وَأَنَا أَشْكُرُ الْمَسِيحَ يَسُوعَ رَبَّنَا الَّذِي قَوَّانِي… إِذْ جَعَلَنِي لِلْخِدْمَة”، فهو لم يجعل نفسه للخدمة، ولكن الرب هو مَنْ فعل ذلك. ويقول أيضًا: “جُعِلْتُ أَنَا لَهَا كَارِزاً وَرَسُولاً…مُعَلِّماً لِلأُمَمِ.” إنّ كل خادم حقيقي معيَّن من الله، لذلك كان بولس قادرًا على التلفظ بكلماته العظيمة إلى تيموثاوس: ” اِحْفَظِ الْوَدِيعَةَ الصَّالِحَةَ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ …”. لقد أخذ تيموثاوس مكافأته، ليس فقط من زملائه المؤمنين، إنما أيضًا من ربّ الحصاد.
إن سجل رحلات بولس بأكمله، هو سجل خدمة تحت إشراف الروح القدس وتوجيهه المستمر. فأعمال 16، على سبيل المثال، يخبرنا عن بولس وسيلا عندما “مَنَعَهُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِالْكَلِمَةِ فِي أَسِيَّا”. وعندما حاولوا الذهاب إلى بثينية – “لَمْ يَدَعْهُمُ الرُّوحُ”. ثم جاءت رؤية مقدونية، كانوا يعرفون أن الرب يدعوهم للكرازة بالإنجيل هناك. في كل مرحلة، عندما كانت تبرز الحاجة لاتخاذ قرارات رئيسية، كان يرسل الله إرشاده، ألا نجد في ذلك درسًا لنا؟ كلا، يقول معلمو الرأي الجديد. بلى، يقول الكتاب المقدس. إن الطريقة التي يتمّ بها التعبير عن إرشاد الله مختلفة، لأننا لسنا رسل يستقبلون أصواتًا ورؤىً مباشرة، ولكن المبدأ يبقى هو نفسه. نحن نصلي بحرارة ونخضع لإرشاد الله، الذي يأتي عندما تكون عقولنا مستعدة للنظر إلى القضايا ووزنها، وأيضًا عندما تُؤمر الظروف بقيادتنا في الطريق الصحيح. (سنعالج ذلك بشكل مفصّل أكثر في الصفحات اللاحقة.)
نحن نعلم أن سلوك بولس هو مثال موثوق به بالنسبة لنا لأن العديد من النصوص الأساسية تأمرنا بأن نحذو حذوه، وأن نتمثّل ليس فقط بالطريقة التي نظّم بها كنائس العهد الجديد، إنما بنهجه الروحي في المسائل.3 إن رسالة سفر الأعمال واضحة، وتقول في الواقع:”أخضعوا أنفسكم لإرشاد الرب في القرارات الرئيسية في الحياة وفي الخدمة الروحية.” ويبيّن لنا أعمال 16 بدون شك أن اهتمام بولس في تمييز إرشاد الله وطاعته هو جزء حيوي في عملية صنع القرار في حياته.
كان المثال الذي وضعه بولس في أن يكون دائمًا في المكان المعيّن له من الله، يعلّمنا باستمرار عن ضرورة طلب مشيئة الله واحترامها. في أعمال الرسل 18: 21 نجده يودّع سامعيه في أفسس قائلا: “يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ حَالٍ أَنْ أَعْمَلَ الْعِيدَ الْقَادِمَ فِي أُورُشَلِيمَ. وَلَكِنْ سَأَرْجِعُ إِلَيْكُمْ أَيْضاً إِنْ شَاءَ اللهُ.” يدّعي معلمو الرأي الجديد أن هذا يعني أن بولس اتخذ قراراته الخاصة على ضوء ما يقوله المنطق، ولكنه كان مستعدًّا لأن يخضع لمشيئة الله النهائية، فقد فهموا من هذه الآية أنّ بولس يقول فقط: “سأعود، ولكن إذا لم أنجح في ذلك يكون الرب قد رفض نيّتي”. ولكن هذا يفرّغ كلمات بولس من معناها البسيط، والتي هي أنه إذا أرشده الله للعودة، سيعود. إن مشيئة الله الخاصة والمميزة هي الهدف الأسمى في المسائل الكبرى للخدمة المسيحية.

لنأخذ مسألة تعيين خدّام، حيث مرة أخرى، نرى الحاجة للسعي طلبًا لإرشاد الله. في أعمال الرسل 20: 28 يتوجّه بولس إلى شيوخ كنيسة أفسس قائلاً – ” اِحْتَرِزُوا إذاً لأَنْفُسِكُمْ وَلِجَمِيعِ الرَّعِيَّةِ الَّتِي أَقَامَكُمُ الرُّوحُ الْقُدُسُ فِيهَا…”. إن الروح القدس هو مَنْ عيّن أولئك الشيوخ، وليس الكنيسة. كان ذلك بإرشاده، وليس بتدبير بشري. عندما نعيّن أشخاصًا في مناصب اليوم، يجب أن نصلّي كثيرًا للحصول على مساعدة وإرشاد بينما نبحث عن معايير الكتاب المقدس، وندرس مدى ملاءمة “المرشح”. لا يمكننا المضي قدمًا بثقة كأننا نملك الصلاحية الكاملة على اتخاذ القرار، إنما فقط بتواضع معتمدين بالحقيقة على معونة الله.
هناك دليل مختلف آخر على الحاجة لإرشاد خاص في القرارات الرئيسية في الحياة في 2 كورنثوس 6: 14-18، حيث أوصي المؤمنون بالانفصال عن الوثنية وعن جميع أشكال التوفيق بين المعتقدات الدينية. ويخلص المقطع إلى وعد رائع في الآية 18 “”وَأَكُونَ لَكُمْ أَباً وَأَنْتُمْ تَكُونُونَ لِي بَنِينَ وَبَنَاتٍ” يَقُولُ الرَّبُّ الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ”. في الحضارة الشرقية في زمن الكتاب المقدس، كان دور الأب مهمًّا جدًّا، لكونه يتحرّك بإرشاد إلهي بسبب المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقه والتي تبدو أوسع وأشمل من مسؤوليات الأب الغربي المعاصر. عندما وعد الله بأن يكون كالأب المثالي، شبّه أبوّته بأبوّة الأب الشرقي القديم.
يساعد هذا المفهوم على الإجابة على سؤال: هل لله إرادة محدّدة ومعيّنة لاتجاه رحلة الحياة؟ كان الأب الطبيعي في زمن الكتاب المقدس يحكم أسرته بسلطة كبيرة، ويقرّر في جميع المسائل الرئيسية الخاصة بأفراد الأسرة، وكان هذا نمط الأبوة التي وعد الرب بها عند إرشاد أولاده الأرضيين. إنه يقرّر ويوجّه في القضايا الكبرى في الحياة. عندما كان شبّان العائلة الشرقية في الخارج يرعون الغنم، كانوا يبادرون إلى اتخاذ القرارات المتعلقة بالأعمال الروتينية اليومية، ولا يلجأون إلى والدهم طلبًا لذلك. ومنهم من أصبحوا مزارعين، وفلاحين وتجار وصباغين، وحرفيين، وخبراء في جميع هذه المجالات التي عملوا بها بشكل مستقل. إنما في القضايا الكبرى في الحياة، مثل اختيار مكان العيش، والمهنة وشريك الحياة، كانوا يعودون لصاحب القرار الأعلى، أي الأب ورب الأسرة الذي يجب دائمًا أن يُؤخَذ برأيه. بالنسبة لنا إنه الآب السماوي.


نبذ حرية الاختيار، وقبول الطاعة


يقاوم يعقوب 4 :13-15 بشدّة التيّار الجديد المنادي بحق بتقرير المصير وصنع القرار، إذ يقول: “هَلُمَّ الآنَ أَيُّهَا الْقَائِلُونَ: “نَذْهَبُ الْيَوْمَ أَوْ غَداً إِلَى هَذِهِ الْمَدِينَةِ أَوْ تِلْكَ، وَهُنَاكَ نَصْرِفُ سَنَةً وَاحِدَةً وَنَتَّجِرُ وَنَرْبَحُ”. أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ. عِوَضَ أَنْ تَقُولُوا: “إِنْ شَاءَ الرَّبُّ وَعِشْنَا نَفْعَلُ هَذَا أَوْ ذَاكَ”.
يتحدث هنا عن رجال أعمال مؤمنين يكرسون عامًا من حياتهم للمتاجرة بعيدًا عن بلدهم، دون الأخذ بعين الاعتبار مشيئة الله وقصده في هذه المسألة. فإنهم لم يتوقّفوا للتخطيط ولدراسة جدوى المشروع، بل بادروا بسرعة كبيرة إلى اتخاذ قرار الذهاب “اليوم أو غدًا”. تُعتبر السنة فترة طويلة، وهي كافية بالتأكيد لتؤثر بشكل كبير في حياتهم الكنسية وخدمتهم، ناهيك عن الحياة الأسرية. كان واضحًا أن رحلة العمل هذه مشروع كبير جدًّا يستحق دراسة متأنية بروح الصلاة، وبرغبة جادة في الحصول على إرشاد الله.

 لا يكفي أن نقول إن رجال الأعمال هؤلاء منبوذين لمجرد أنهم يفتقرون للاحترام العام لمشيئة الله السيادية، كما لو كان عليهم أن يضيفوا الاعتراف الرسمي بـ “إن شاء الله” في نهاية مقترحاتهم (كما عبّر فريزين وماكسون في اختصارهم للمقطع بالتالي). ليس لكلمات يعقوب أي غرض عملي آخر، هدفها الوحيد أن تذكر المؤمنين أنهم ملتزمون بطلب إرشاد الله في جميع القضايا الرئيسية في الحياة.
يدين يعقوب المؤمنين لثقتهم بحقهم في تقرير المصير، واصفًا إياها بأنها خطية، قائلا: “وَأَمَّا الآنَ فَإِنَّكُمْ تَفْتَخِرُونَ فِي تَعَظُّمِكُمْ. كُلُّ افْتِخَارٍ مِثْلُ هَذَا رَدِيءٌ. فَمَنْ يَعْرِفُ أَنْ يَعْمَلَ حَسَناً وَلاَ يَعْمَلُ، فَذَلِكَ خَطِيَّةٌ لَهُ.”(يعقوب 4: 16-17). إن لله مسار لنا في رحلة الحياة، وعلينا بتطبيق قواعد الإرشاد إكرامًا لمشيئته وقيادته. قد لا يعطينا الله فكرة شاملة عن المكان الذي ينوي أن يأخذنا إليه، ولكن إذا سعينا طلبًا لإرشاده، سنُخضع طريقنا له، ونثق في يده التي تشكّل ظروفنا وشؤوننا.
هناك نص نهائي للتأمل به وهو 1 بطرس 5 :6-7، حيث نقرأ: ” فَتَوَاضَعُوا تَحْتَ يَدِ اللهِ الْقَوِيَّةِ لِكَيْ يَرْفَعَكُمْ فِي حِينِهِ، مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ.” في بعض الأحيان، تُترجم كلمة “اهتمام” بـ “همّ”. الكلمة اليونانية الأصلية هي فعل يعني – الانجذاب إلى اتجاهات مختلفة (تجزّؤ، واختلاف أو انقسام). إنه يشير إلى وجود نوع من الاهتمام أو القلق بحيث تراودك أفكار متضاربة فتسلبك تركيزك أو تسيطر عليك، فتجذب الشخص في عدة اتجاهات في آن واحد. حاول أحد المترجمين محو هذا الجزء من المعنى فقال –” مُلْقِينَ كُلَّ أفكاركم المشتتة عَلَيْهِ”. وهنا نجد خلطًا ما بين الرغبات والمخاوف.
في مثل الزارع، استُخدمت نفس هذه الكلمة اليونانية، فالبذار التي سقطت بين الشوك تمثّل المستمع الذي خنقه “همّ هذا العالم”، فتقوم معركة في فكر هذا الشخص بينما تمزّق قلبه إغراءات الغنى واللذات في هذا العالم. إنّ “اهتمامات هذا العالم” لا تعني هنا “هموم العالم”، بل  إلهاءات العالم. يستخدم بولس نفس الكلمة اليونانية في 2 كورنثوس 11: 28، بينما يعدّد تجاربه وضعفاته يذكر هذا الضغط اليومي تحديدًا – “الاِهْتِمَامُ بِجَمِيعِ الْكَنَائِسِ”. إنه لا يعني أن خدمته في رعاية الكنائس كانت مزعجة ومؤلمة، بل أنّ فكره كان مأخوذًا باستمرار في اتجاهات مختلفة بسبب تجارب الكنائس ومشاكلها.
كلمة الاهتمام من 1 بطرس 5 تحمل معنى التمزّق بسبب الاتجاهات المختلفة. إنها تشير إلى التجزؤ والارتباك والفكر المتردد، وهذا ينطبق بصفة خاصة على القرارات الكبرى المحيّرة في رحلة الحياة. عند مواجهة مثل هذه القرارات، نلقي بفكرنا المشتّت على الرب، عالمين أنه “يعتني” بنا (وهي كلمة يونانية مختلفة تعني أنه يهتمّ بنا). هذا لا يعني بالطبع أن نتخلّى عن  إيفاء المسألة حقها من التفكير بعناية وبروح الصلاة، كما توصينا الكلمة، إنما أن القرار في النهاية ليس لنا، بل للرب.
يا له من تعليم يبعث شعورًا بالاطمئنان، أن يكون لله إرادة محددة لنا! إنه يخبرنا كم أنه يحبنا ويعتني بنا، ويؤكد على الطبيعة الحميمة لاتحادنا فيه، ويشدّد على أن لكل مرحلة رئيسية في رحلة الحياة غرضًا، ولكل نقطة تحوّل كبيرة هدف، وأنه لن يكون هناك سنوات ضائعة ولن نندم إذا سعينا طلبًا لمشيئته. مثل هذا الفكر يجعلنا نتواضع ويشجعنا على السعي للطاعة الكاملة لمشيئة الله لنا.
إن الرأي الجديد في الإرشاد يضعف بشدة اكتشاف المؤمن لربوبية المسيح. فتصبح الحرية والحق في تقرير المصير القاعدة بينما نسلب المسيح سلطانه وربوبيته. نحن لا نتهم مروّجي المدرسة الجديدة الذين يعارضون الإرشاد التقليدي بمهاجمة سيادة المسيح، ولكن هذا ما يحصلون عليه: مؤمنين غير مقدسين يرفضون تسليم أنفسهم بالكامل للرب.
في هذه الأيام من الرخاء، وإغراء الرفاهية والربح غير المشروع، يمزّق الرأي الجديد دفاعات المؤمنين، إذ يقول – “افعل ما تجده منطقيًّا وصائبًا”. للأسف عندما نُجرّب، يمكن لأشياء كثيرة (طالما أنها لا تبدو غير أخلاقية بشكل صارخ) أن تبدو منطقية. تحت هذا الإغراء، يمكن أن نبرّر التساهل، والوفرة، والترفيه، والفرص، والمنفعة الشخصية، وهلم جرا. إن الرأي الجديد يجعلنا فريسة لاستبداد النفس، وللقاعدة “النموذجية” للإله الغائب، وللحد من الطاعة الإنجيلية للوصول إلى مستوى المسيحية الإسمية. حقيقة أن لله مشيئة معيّنة، وهدف في حياة شعبه هي أحد أعظم بركات الخلاص، وحافزًا حيويًّا للورع الحقيقي والحيّ. يجب أن نكون دائمًا مسرورين وخاضعين لملك الملوك لأنه امتيازنا الأعلى ومجدنا.